العودة   مصر موتورز مجتمع السيارات > النادى الثقافى الاجتماعى > نادى المبدعين

نادى المبدعين كل ما يخص اعضاء المنتدى من ابداعات ادبيه او فنيه و كذلك عرض قراءات اﻷعضاء من الكتب المختلفة بشرط ان تكون الموضوعات خاصه باعضاء المنتدى لا منقوله


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #26  
قديم 05-01-2010, 10:05 AM
الصورة الرمزية Moh.Osama
Moh.Osama Moh.Osama غير متواجد حالياً
التخصص العملى: طالب فى كلية الادارة والاقتصاد بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الموقع: مصر ام الدنيا
المشاركات: 576
Moh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant future
افتراضي رد: دعوة لجمع مذكرات د. مصطفى محمود

«المصرى اليوم» تواصل نشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التى سجلها قبل وفاته: الحلقه العاشرة..الزوجة الثانية

كتب المذكرات السيد الحرانى - محمد الساعى ٥/ ١/ ٢٠١٠مصطفي محمود

■ جلست كثيرا أفكر فى الارتباط بها وكانت تحادثنى نفسى أحيانا: هل تريد تكرار المأساة لماذا تريد أن تتعذب فى نار الحب؟
■ استطاعت هى أن تبعد عنى عقدى تجاه النساء ولكنى بعد فشلى معها مثل من سبقتها اتجهت للعلم والدين
■ نعم كنت ومازلت أفضل العلم والدين على النساء حتى على راحتى ونفسى
■ العلم هذا هو الهدف والدين هذا هو الباقى
■ كنت دائما أسعى إليهما مهما كانت العواقب والتضحيات
مصطفى محمود
«لم يخضع قلبى لعملية إجهاض لفشلى فى الزيجة الأولى.. ولم يكن مصيرى الاختباء داخل غرفتى أو منزلى لمرورى بتجربة زوجية كان مقدرا لها النجاح ولكنها فشلت، مثلما يفعل الضعفاء من الرجال فى مثل هذه المواقف.. بل كنت أقوى بكثير مما تتوقعون، واجهت الانفصال الأول فى حياتى بدبلوماسية وهدوء لاننى كنت قد توصلت إلى القرار بعد تفكير عميق.. بعد أن أصبحت الحياة الزوجية مستحيلة لتبنيها للغيرة القاتلة» كانت هذه كلمات المفكر الكبير مصطفى محمود التى.. أطلقها وهو فى حالة من الشرود عندما تحدثنا معه عن تجربة الزواج الثانية فى حياته، فقد كانت أكثر أمانيه أن يتمتع بحياة أسرية وزوجية مستقرة.. فى هذه الفتره من عمره.. بعدما اكتمل عامه الستون..
كان يومه فى هذه الفتره مقسما إلى عدة أجزاء.. مابين علمه وإيمانه وأوراقه ومؤسسته الخيرية وبرنامجه وتطلعاته.. كانت عملية تفسير القرآن تأخذ منه ربع يومه الطويل الذى كان لا ينام فيه سوى ثلاث ساعات، وكان دائما يحاول الوصول منها إلى شىء لا يدركه.. ثم يترك القرآن ليغلق على نفسه سطح الجمعية ليراقب السماء، فمرصد مصطفى محمود دائما ما يحمل الجديد.. لا يستيقظ من تلك الساعات الذى يسبح فيها مع ملكوت الخالق إلا بعد طرق على الباب من أحد العاملين معه فى البرنامج «العلم والإيمان» لأن موعد التصوير حان..
وهكذا كانت تدور الحياة.. وكان يسأل نفسه دائما.. هل أنا سعيد؟؟ ألا ينقصنى شىء؟؟ وتركنا رده كاملا لنسمعه معا كما رواه لنا بالضبط: «لم تتحقق أمنية الاستقرار التى حلمت بها.. حلمت دائما بحياة أشبه بحياة أبى وأمى وطالما بحثت عنها طويلا.. قضية الغيرة مع سامية عرقلت هذا الحلم.. وفوجئت فى أحد الأيام بأننى أعيش وحدى بدونها.. وأخذت وقتا حتى تعودت على النظام الجديد.. كنت فى هذه الأيام بدأت حلما اسمه (الجمعية) كتبت آلاف الأوراق وسجلت عشرات الحلقات التى تتكلم عن العلم والإيمان وعرفت أن هناك خلاصة واحدة لاندماج الاثنين وتتمثل فى شىء اسمه (العمل).
طبعا أنتم عارفين انى مابحبش الاسماء الكبيرة المبهرة.. مثلا العمل يعنى إيه العمل ده.. العمل من غير كلام كتير إنك ما تنامش وتحلم، تقوم تفز وتشتغل والعالم كله يشوف إنتاجك.. وكانت دى بداية مشروع الجمعية والمؤسسة الخيرية.. دماغى مشغولة بميت حاجة.. وبنيت الجمعية واستقريت فى غرفة صغيرة فوق الجمعية مش محتاج حاجة من الدنيا إلا دى.. واطلقت عليها اسم التابوت .. بس هل كان ناقصنى حاجة؟؟»..
ولأن الحب الأول فى حياتى قد ذهب ضحية الغيرة- يقول مصطفى محمود- فقد ظللت اكثر من ثمانى سنوات صائما عن الزواج لدرجة ان اصدقائى المقربين اطلقوا على جملة اصبحت بعد ذلك على لسان القريب والبعيد وهى «درش عنده عقدة الحريمات» ولكننى بعد تفكير عميق وطويل تطلب منى عزلة استمرت لعدة أشهر أفكر فى الأمر وأقرأ كل الكتب السماوية والتفاسير والأحاديث النبوية لأتوصل إلى حقيقة المرأة وكيف يمكن السيطرة عليها.. إلا أننى أوقفت التفكير فى كيفية السيطرة عليها عندما قابلت زينب..
وزينب قابلتها عام ١٩٨١، تعرفت عليها داخل مجلة صباح الخير أثناء نقاش دار بينها وبين مفيد فوزى وإيهاب وبعض الأصدقاء حول لغز الحياة والموت وظللت أستمع لها دون تدخل ثم استأذنت منهم جميعا وناقشتها بعد ذلك بنفسى واقتنعت بها وأعجبت بشخصيتها القوية.. كان لها أفكار غير الأفكار التى أقابلها كل يوم.. وقمت بدعوتها بعد ذلك لزيارة الجمعية والمسجد لترى الانشاءات الجديدة.. وعندما حضرت اعطيتها مجموعة كتب وكتبت لها إهدائى عليها وكانت هى فى ذلك الوقت تعمل مأمورة ضرائب ولكنها كانت مثقفة دينيا وكانت محجبة.. ولديها موهبة الخطابة.. وحساسة وجلست كثيرا أفكر بالارتباط بها وكانت تحادثنى نفسى أحيانا: هل تريد تكرار المأساة فهذه هى المرأة التى أخرجت آدم من الجنة؟
ولكن إعجابى بها كان اعجابا أكثر من إعجابى بأنثى فهو إعجاب بأنثى وفكرة.. واستطاعت هى أن تبعد عنى عقدى تجاه النساء وعلى الفور صارحتها بما يحوى قلبى من مشاعر حب تجاهها ولكنى لم أبلغها بأنى أعد لها مفاجأة وهى أننى قررت التقدم لطلب يديها من أسرتها.. دعوت نفسى على العشاء فى بيتها فى ليلة ما..
وللمصادفة كان اليوم الموافق يوم المولد النبوى وبعد العشاء وبينما أحتسى الشاى مع أخيها أحمد ووالدتها طلبت يدها بمنتهى الرقى والبساطة والهدوء وكانت مفاجأة بالنسبة لها فلم أخبرها كما ذكرت ولكنها قبلت على الفور وكانت سعيدة جدا ورحبت أسرتها بطلبى وكان وقتها فارق السن بيننا كبيرا فقد كانت هى فى الخامسة والثلاثين من عمرها بينما أنا فى الستين من عمرى، ولكنى لم أكن خاضعا للشيخوخة التى تهاجم من هم فى مثل عمرى ولم تكن هذ ه السن حاجزا بيننا..
ومن هنا أيقنت أنها تريد تحقيق الهدف الذى اجتمعنا عليه وهو العطاء بلا حدود وبلا انتظار مقابل، وكان يتمثل هذا الهدف فى «جمعية محمود الخيرية الإسلامية» التى كنت اتخذت قرار انشائها منذ زمن بعيد ولكنه لم يترجم بشكل صحيح إلا حينما ارتبطنا سويا فأصبح هناك اتحاد بيننا، وبالفعل ورغم كل الصعاب الأمنية التى واجهتها من تجسس على التليفونات من الأجهزة الأمنية ومراقبة بشكل دائم إلا أننا انتصرنا على كل هذه الصعاب وقمنا بافتتاح الجمعية فى عام ١٩٨٢.
وكان لشقيقى مختار الذى تولى منصب محافظ الدقهلية دور كبير فى تأسيس الجمعية فى بدايتها.. ومثلما تقدمت إليها يوم المولد النبوى كنت أريد أن أتزوجها فى أقدس بقاع الأرض.. وتحققت رغبتى فتزوجتها فى المدينة داخل المسجد النبوى رغم أننى كنت أريد زواجها فى مكة داخل الكعبة إلا أن هذا كان القدر وقد احتوى نص وثيقة الزواج على الآتى:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. المملكة العربية السعودية وزارة العدل.. الصكوك الصادرة من المحاكم الشرعية.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين وبعد، فبالجلسة الشرعية التى عقدت لدى أنا عبدالله محمد إبراهيم الرئيس المساعد لمحاكم منطقة المدينة المنورة والتحية لرئيسها فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن آل صباع بناء على الطلب المقدم من زينب بنت حسين حمدى المصرية الجنسية بجواز رقم (١٧٤٦ فى ٢٦/٤/١٩٧٧م والمصرح لها بالإقامة برقم ١٠٤٣/٣ فى ١٨/١/١٤٠٢هـ) وبناء على إقرار الدكتور مصطفى كمال محمود حسين المصرى الجنسية بالجواز رقم (٢٢٣٠١ فى ٩/٧/١٩٨١م والمصرح له بالإقامة برقم ١٠٤١/٣ فى ١٨/١/١٤٠٢هـ) وعلى صك الطلاق الصادر من محكمة الزيتون فى بركة المسبح القاهرة برقم ٤٧٥ فى ٧/٤/١٩٧٩م وعلى شهادة كل من مروان عمر قصاص ومحمد هاشم رشيد المعدلين وفى الأصول الشرعية ثبت لديه أن زينب بنت حسين حمدى لم تتزوج بعد أن طلقها زوجها فتحى حسين حسن...
وأن الخاطب الدكتور مصطفى المذكور كفء لها وأن الصداق مبلغ أربعة آلاف ريال سعودى هى صداق مثلها وأنه لا ولىّ لها بالمملكة العربية السعودية وبناء على طلبها تم إجراء عقد زواجها من الخاطب الدكتور مصطفى كمال وصداقه الراتب المذكور وبناء على توفر الشروط وانتفاء الموانع فقد جرى عقد نكاح الدكتور مصطفى كمال محمود المذكور على زينب بنت حسين حمدى على الصداق المذكور بواسطة المأذون الشرعى أمين مرشد بتاريخ ٤/٢/١٤٠٢هـ بشهادة كل من السيد محمد هاشم رشيد وجمال محمد هاشم رشيد وما هو الواقع حرر من الضبط السادس لسنة ١٤٠١هـ وصحيفة رقم ٩٨ فى اليوم الخامس من شهر صفر الأخير من أيام ألف وأربعمائة واثنين من هجرة من له كمال العز ونهاية الشرف سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم».
ثم واصل الحديث قائلا: كنت أنا ثالث زوج لها وكانت هى ثانى زوجة لى وتذكرت فى هذه اللحظة أن والدى أيضا كان ثالث زوج لأمى وعاش معها فى حياة مستقرة وجميلة، وحدثت نفسى بأنى سأنعم بنفس ما وصل إليه أبى رحمه الله من استقرار أسرى، فقد كنت أعتقد أنى شديد الشبه له فى ملامحى الشكلية وفى حظى، وما شجعنى للارتباط بها سريعا مسألة الدين ورغبتها فى أن تفكر فى نفس الهدف وتريد أن تكون معى شريكة هدف نصل إليه معا فقد كنت فى أشد الاحتياج لمن يقف بجانبى ويشجعنى على ما أقوم به فى وقت كان ينتقدنى الجميع فى تصرفاتى، معتقدين أننى عندما أهب حياتى وأنفق أموالى فى سبيل الله فإننى قد أصبت باضطراب عقلى.
ووجدت أن هذه الإنسانة ستقف بجانبى وعرفت أنه لابد من إنسانة تشاركنى فى رحلة الحياة التى ستكون جافة دون امرأة وهذا الزواج استمر أربع سنوات فقط وكان الطلاق لأنها لم تستطع أن تثبت ما قالته واتفقنا عليه بأن نهب حياتنا لله، واكتشفت أنها إنسانة مثلها مثل باقى بنات حواء، كانت امرأة تريد أن تخرجنى من الجنة.. تريد أن تعيش الحياة بما تحويه من نعم وفسح ورحلات للخارج قد اتفقنا أنها من المحذوفات من قاموسنا، وكانت حياتى قاسية جدا عليها فكيف تعيش معى فى حجرة فوق سطح جامع.
وهنا غرق مصطفى محمود فى موجة من الضحك وهو يقول: لقد كنت أعلق على باب هذه الحجرة لافتة مكتوبا عليها «التابوت» يعنى نعيش فى مقبرة ولهذا لم تتحمل حياتى الميتة.. فالحياة أصبح لا معنى لها فى نظرها، مع أنها كانت تعلم ذلك من الأول بل بالعكس قالت إنها تحب بشدة هذه الحياة الدينية وحياة الزهد ولكنها فى النهاية امرأة عادية تريد أن تعيش زوجة لكاتب كبير.
كانت تعتقد أنها متزوجة من أحد الكتاب المعروفين وتحلم بأن تقضى رحلاتها فى باريس ولندن وأوروبا وتعيش حياة مرفهة وليس فى حجرة على سطح جامع مكتوب عليها «التابوت»، وطبعا كان لها أولادها من زوجيها السابقين ثلاثة أولاد كنت أعاملهم مثل أبنائى تماما وأحسست بعد مرور عام على زواجنا أن كلا منا يدور فى فلك مختلف تماما عن الآخر وأيقنت أن «زينب» نسيت الهدف الذى جمعنا سويا ولم تعد تفكر فيه وتم الانفصال فى عام ١٩٨٤ وجاء قرار انفصالنا بعد فترة من التفكير من الطرفين وعن اتفاق، فقد كان انفصالنا مهذبا ومحترما كما كان زواجنا، وقد حدث الانفصال بعد رحلة استجمام فى سانت كاترين... وقد حملت وثيقة الطلاق النص التالى:
«إشهار طلاق صدر عن يد المأذون... رقم الدفتر ٢٣٥٨٦٨ صفحة ٩... أنه فى يوم السبت الموافق ٦ من محرم سنة ١٤٠٦هـ الموافق ٢١ من سبتمبر ١٩٨٥م الساعة الثامنة مساء بحضورى وعن يدى أنا أحمد أمين السيد خليل مأذون الزمالك التابع لمحكمة عابدين للأحوال الشخصية وبمكتبى ٣٥ ش نوبار بعابدين حضر الرجل الرشيد مصطفى كمال محمود حسين ابن السيدة زينب حسن الحكيم ومهنته صحفى بروزاليوسف مصرى مولود ٢٥/١٢/١٩٢١ شبين الكوم ومقيم ٣ مسجد محمود ميدان جامعة الدول العربية ويحمل بطاقة ١٣٦٦٠ فى ١/٥/١٩٦٣ قسم الدقى ومعه وثيقة زواجه بزوجته مدخولتى السيدة/ زينب حسين حمدى بنت السيدة/ نفيسة محمد سيد أحمد مأمورة ضرائب مصرية مولودة ١٧/١٠/١٩٤٦ القاهرة ومقيمة ٨ شارع النويرى مربع ١٠٥٠/٤ بمصر الجديدة وتحمل بطاقة ٤١١٦٠ فى ١٥/١٠/١٩٧٢ النزهة،
ومحل قيد أسرة الزوج شبين الكوم شياخة الدقى رقم ١٠٢١٩ قسم الدقى والثابت زواجهما بتاريخ ٤/٢/١٤٠٢هـ صفحة ٩٨ عملية الشيخ أمين مرشد التابع لمحكمة المدينة المنورة، وبعد تعريفة المعرفة الشرعية وبشهادة كل من حسن عبد الله مرسى موظف مصرى مولود ١/٥/١٩٣٨ المنيا ومقيم ٣٧ شارع نوبار بعابدين بطاقة ٣٢٩٣٤ فى ١/١٠/١٩٧٤ عابدين ، أيمن أحمد خليل طالب مصرى مولود ٣١/١٢/١٩٥٩ لبيشة ومقيم لبيشة مركز أشمون منوفية بطاقة ٥٤٣٦٨ فى ٤/٢/٧٧ أشمون...
وأمامهما أنشأ الزوج المذكور طلاق زوجته المذكورة بقولة زوجتى مدخولتى السيدة/ زينب حسين حمدى الغائبة عن هذا المجلس طالق منى وعرف أن هذا هو الطلاق الأول بعد الدخول بها فطلقت منه أولى رجعية، له مراجعتها ما دامت فى العدة دون إذنها أو رضاها، وقد تعهد بإخطارها بهذا الطلاق الرجعى الأول للحضور لمكتبنا لاستلام شهادة طلاقها، وقد حررت هذه الشهادة من أصل وثلاث صور سلمت إحداها للمطلق والثانية إلى المطلقة والثالثة إلى السجل المدنى».
ولتأثرى الأشد قسوة بفشل علاقتى الزوجية الثانية والتى انتهت دون إنجاب أطفال قمت بعدها بكتابة‏‏ مقال قلت فيه: «لقد قررت‏ ‏بعد‏ ‏الفشل‏ ‏الثانى‏ ‏أن‏ ‏أعطى‏ ‏نفسى لرسالتى وهدفى كداعية‏ ‏إسلامى ومؤلف‏ ‏وكاتب‏ ‏وأديب‏ ‏ومفكر‏ ‏وقد‏ ‏اقتنعت‏ ‏تماما‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏قدرى ‏ورضيت‏ ‏به‏». ‏ومنذ‏ ‏هذا‏ ‏الحين‏ ‏وأنا‏ ‏أعيش ‏فى جناح‏ ‏صغير‏ ‏بمسجدى بالمركز‏ ‏الإسلامى، ثم انتقلت إلى شقتى بعد ذلك عندما اشتد المرض وكنت دائما أغرق‏ ‏وحدتى فى العمل.
‏وتعودت‏ ‏أن‏ ‏أعطى ظهرى لكل‏ ‏حقد‏ ‏أو حسد‏ ‏ولا‏ ‏أضيع‏ ‏وقتى فى الاشتباك‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏الأشياء‏ ‏وأفضل‏ ‏أن‏ ‏أتجنبها‏ ‏وأتجنب‏ ‏أصحابها‏ ‏حتى‏ ‏لا‏ ‏أبدد‏ ‏طاقتى فى ما‏ ‏لا‏ ‏جدوى‏ ‏وراءه‏ .. وكانت انتصاراتى على‏ ‏نفسى هى أهم‏ ‏انتصارات‏ ‏فى حياتى وكانت‏ ‏دائما‏ ‏بفضل‏ ‏الله‏ ‏وبالقوة‏ ‏التى أمدنى بها‏ ‏وبالبصيرة‏ ‏والنور‏ ‏الذى نور‏ ‏به‏ ‏طريقى.
ولذلك كان الحب معرضا فى كل مرة للقتل لأن النساء تصورن أن القرب منى نعيم الدنيا ولم يفكرن بأن غايتى هى نعيم الآخرة، وأيقنت بأن الحب فى طبيعته قصير العمر، فإن لم ينته بيدك أو بيد محبوبك فهو ينتهى بالطعن فى السن والزهد فى الشهوات، واكتشفت أيضاً أن الحب الوحيد الباقى طويل العمر هو علاقتى بالله سبحانه وتعالى خاصة إذا ما ترجمت هذه العلاقة فى أفعال تحس، ولذلك فإن حبى للناس يمكن أن يكون فى الله أيضاً.
وعرفت أنه من الصعب الآن أن أجد الحب النادر مثل الذى كان بين النبى صلى الله عليه وسلم والسيدة خديجة رضى الله عنها التى أعطته نفسها ومالها وصحتها وعمرها بكل سعادة، وهذه نماذج نادرة بل نادرا ما يجد الإنسان شخصا يفنى معه فى الهدف، أيا كان فقد تلقيت دروسا طويلة وعميقة وعرفت حدود هذا الحب. ثم إن مشكلة المرأة أنها تستنزف منك شيئا غاليا جدا هذا الشىء اسمه الاهتمام وهذا أغلى ما يملك الإنسان، لأنه الطاقة النفسية البحتة، وحين تحب وتنشغل وتسهر فإن هذا الانشغال هو ضياع الهمة لأن همتك تصبح حينئذ فى المحبوب ويضيع منا أغلى ما نملك..
وظل مذهبى منذ تلك اللحظة فى الحياة هو أن أقاوم ما أحب وأتحمل ما أكره باعتبار أن الحب الحقيقى الباقى هو حب الله سبحانه وتعالى أما الحب والهوى فهو خداع والذى جرب يعرف ذلك جيدا.. يسهر وينشغل. ولكن الآن طغت المادية بشكل كبير على العالم فعلى الرغم من أن باريس ولندن ونيويورك عواصم النور والحضارة إلا أنها تحولت إلى بلاد العلاقات الجنسية المنحلة والشذوذ والمخدرات والهيروين، فالرجل متزوج وله أكثر من عشيقة وزوجته لها أكثر من عشيق، فقد سيطر الإحساس باللذة والمتعة على حياة الناس وأصبحت حياتهم نوعا من الأخلاق القرودى وتحولت حياتهم من الرقى والسمو إلى الانحلال والفجور.
وأخيرا كنت أنظر إلى نفسى فى المرآة وأدقق فى النظر إلى ملامحى وبنيانى وأقول: لماذا دائما تفشل علاقات الحب والزواج الموجودة فى حياتى؟ لقد فشل الحب الأول «عديلة» فى مهده وأنا صغير بسبب ضعفى أمام مجموعة من الصبية، وهنا أتساءل هل لأنى كنت دائما أفضل الفكر والعلم والدين على الحب، واجد الإجابة.. نعم كنت أفضل العلم والدين حتى على راحتى ونفسى فهذا هو الباقى وهذا هو الهدف الذى كنت دائما أسعى إليه مهما كانت العواقب والتضحيات التى تبذل فى سبيل ذلك الهدف السامى والنبيل.
.. ولقد تزوجت مرتين وفشلت فى الزيجتين وربما هما معذوراتان لأن لدى مشكلتين فبجانب مسألة الطبيب والكاتب والفيلسوف والإعلامى والمفكر والمؤلف هناك أيضا أمر أصبح مشكلة فى تلك الفترة وهو أننى الذى أخطط لكل شىء فى حياتى، لم أخطط أننى سأصبح فى يوم من الأيام صاحب رسالة.. بالفعل أصبحت أحمل رسالة للجميع.
__________________



رد مع اقتباس
  #27  
قديم 12-01-2010, 05:13 AM
الصورة الرمزية Moh.Osama
Moh.Osama Moh.Osama غير متواجد حالياً
التخصص العملى: طالب فى كلية الادارة والاقتصاد بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الموقع: مصر ام الدنيا
المشاركات: 576
Moh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant futureMoh.Osama has a brilliant future
افتراضي رد: دعوة لجمع مذكرات د. مصطفى محمود

«المصرى اليوم» تواصل نشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التى سجلها قبل وفاته: الحلقه الحادية عشرة..رحلاتى.. سوَّاح فى دنيا الله

كتب المذكرات محمد الساعى - السيد الحرانى ١٠/ ١/ ٢٠١٠مصطفي محمود

■ مازلنا نفهم الشرف فى بلادنا الشرقية بمفهوم ضيق جداً فالشرف عندنا هو صيانة الأعضاء التناسلية ونحاول أن نحكم على الشعوب بنفس المستوى فباريس داعرة لأنها تتبادل القبلات فى الشوارع وإنجلترا انهارت لأن الرجال أطالوا شعورهم ولندن هى الشذوذ الجنسى ولكن الحقيقة أن الشرف أكبر من هذا فهو شرف الكلمة.. شرف العمل والمسؤولية
مصطفى محمود
الوصول إلى اليقين أخذ الكثير من العمر.. نصف عمره تائه والنصف الآخر يبحث عن الحقيقه.. هل انعزل داخل حجرة مغلقة وظل يفكر.. وفقط، مثلما فعل أسلافه فى التاريخ البعيد.. الإمام أبوحامد الغزالى مثلا، أو جان جاك روسو؟ بالتأكيد لا؛ فالحقيقة فى هذا العصر الحديث تحتاج إلى ما هو أكثر من التفكير المجرد.. تحتاج إلى التجربة.. والمشاهدة.
مصطفى محمود أكد أكثر من مرة أن المسيخ الدجال ظهر بالفعل متمثلاً فى الوحش المسمى بالعولمة والذى أكل الأخضر واليابس فى طريقه ولم يترك دولة إلا واحتلها اقتصاديا أو ضمها إلى أملاك الشيطان الكبير مخترع العولمة.. وكان يحدث نفسه دائما: فى مثل هذا العصر المخيف هل يصح أن أعرف ما أعرفه من صفحات الكتب فقط؟
تحدث المفكر الكبير مصطفى محمود، وهو ينظر إلى مجموعة من الصور التقطت له فى مشارق الأرض ومغاربها، وقال: لا أستطيع أن أجزم بأننى مازلت أتذكر كل شىء عنها رغم أنها حصلت على نصيب كبير من عمرى فاستغرقت أكثر من ٤٠ عاماً أتنقل بين بلاد الله بحثاً عن الجديد.. بعد أن تعرفت على ما كان متاحاً لى داخل مصر والوطن العربى، وفى هذه الرحلات كانت نقاط التحول فى فكرى وحياتى وهى التى سأرويها هنا.
البداية كانت عندما كانت الرحلة والسفر من أهم الأشياء فى حياتى منذ مولدى وحتى الآن.. أتذكر عندما كان أبى يقول لى ولأخوتى إن الناجح وصاحب الدرجات الأكثر فى المدرسة سيحظى برحلة إلى القناطر الخيرية.. كنت أعيش أيامى أحلم بالرحلة وأتخيل ما يمكن أن أراه فيها وما يمكن أن أحمله معى وأنا عائد منها، ولذلك كنت أصنع المراكب الورق وأتخيل أننى سأفرت على ظهرها للهند وكما تعودت منذ الصغر أنه لابد من تحقيق أحلامى مهما كانت صعبة ومهما طال الزمن..
حتى لو كان السير على الأقدام من جنوب أفريقيا إلى القاهره.. وهو الحلم الذى طالما راودنى منذ الطفولة وقد تحقق حين أصبحت صحفيا فى روزاليوسف، وعلمت أننى ضمن الوفد المسافر لحضور مؤتمر آسيوى أفريقى فى تنجانيقا- تنزانيا حالياً- عام ١٩٦٢ وعندما علمت بخبر اختيارى ضمن الوفد كدت أن أغيب عن الوعى من الفرحة.
لم تكن سعادتى بالسفر لأنى سأصبح نزيل فندق خمس نجوم أو سأتمتع بمجموعة من الفسح والتسوق ولكن كانت سعادتى لأننى أخيرا سأحقق جزءا كبيرا ومهما من رحلة البحث عن الإيمان واليقين من أكثر البقاع التى لم تدنسها بشرية أو حضارة زائفة أو عولمة من الغابات والصحراء والطبيعة..
وعلى الفور توجهت لاستخراج تأشيرات السفر وحدث أطرف موقف فى حياتى أظهر لى مدى سوء الحظ عندما قابلتنى الصعوبات فى استخراج تصاريح السفر وعرقلوا سفرى بطرق كثيرة.. واكتشفت أن السبب أن هناك ضابطاً عسكرياً يحمل نفس اسمى ممنوع من السفر بأمر السلطات وكان مثل هذا الأمر يحتاج أيام عبدالناصر إلى بحث وتحريات حتى يتوصلوا إلى أننى لست هذا الشخص الممنوع من السفر وكم تمنيت كثيرا فى هذه الأيام أن أغير أحد الشيئين.. اسمى أو النظام.
وعندما حلت مشكلة التصاريح فوجئت بشح فى العملة الصعبة.. التى أحتاجها لمواجهة متطلبات الرحلة وإن أسعفتنى ذاكرتى فهو لم يكن مبلغاً من المال يزيد على عشرة جنيهات ورغم كل هذه الصعوبات إلا أننى استطعت أن أتغلب عليها وسافرت وغمرتنى السعادة لدرجة جعلتنى أنسى كل المتاعب التى صادفتها قبل السفر وما إن وضعت قدمى فى أفريقيا حتى انطلقت لأحقق ما أصبو إليه.. التنقيب عن أسرار أفريقيا..
فلم أطق الجلوس ولو دقيقة واحدة داخل الفندق وفى «تنجانيقا» صعدت جبل «كليمنجارو» ذلك الجبل الغريب الذى تتوافر فيه جميع فصول العام فحتى الثلوج تجدها فوق هذا الجبل وكلما صعدت تدريجيا تتغير أنواع النباتات التى تقابلك، فهذا الجبل فى حد ذاته يمثل متحفا من الطبيعة الرائعة، ولم أنس أننى يجب عند عودتى أن أكون محملا بكم من الصخور الطبيعة النادرة والأعشاب وهذا ما حدث بعد ذلك..
وكانت سعادتى كبيرة لأننى لم أصرف مليما من الجنيهات أثناء فترة انعقاد المؤتمر فقد تكفل المؤتمر بكل مصاريف الإقامة والمأكل والمشرب وما إن انتهى المؤتمر واستعد الجميع للعودة إلى مصر حتى فوجئوا بى أقول لهم «ترجعون إلى مصر بالسلامة».. وصرخ يوسف السباعى، الذى كان سكرتير المؤتمر الآسيوى الأفريقى، «ليه أنت مش راجع معانا ولا إيه».. فقلت له «لا راجع لكن مش بالطياره.. أنا هاروح مشى على رجلى»، واعتبرها مزاحاً وضحكاً، وضحك الجميع معه ولكنه تعجب عندما تأكد من أننى لا أمزح فقال «أنت اتجننت» ولكنى قلت له هذه فرصة العمر فلن أضيعها.
اتجهت إلى جنوب السودان وأتذكر أننى قوبلت بحفاوة وتقدير فى كل مكان أذهب إليه وقابلت عددا كبيرا جدا يقولون بأنهم من قرائى والمعجبين بكتاباتى فقد اتضح أن مجلة صباح الخير تصل إليهم وتلقى رواجا كبيرا بينهم ولهذا ظلت الجنيهات التى خرجت بها من مصر كما هى لم تنقص مليما وهذا لكرم القراء فى السودان الذين أقاموا لى ولائم ونحروا الذبائح احتفالا بوصولى.
ووصلت إلى «جوبا» فى جنوب السودان ومنها إلى الأحراش وهناك عشت ثلاثة أشهر من أفضل أيام حياتى بين أبناء قبيلة «نم نم» أو «نيام نيام» التى يعيش أهلها عراة تماما إلا من ورقة توت.. استضافنى زعيم القبيلة وكان يجيد الإنجليزية لتعامله مع الاستعمار الإنجليزى، والغريب بل الكارثة والفاجعة أنه كان متزوجا من خمسين سيدة يسكنون فى خيام متجاورة وعرض على أن أتزوج أربعا من بناته وعلى الفور أصابنى الرعب من هذا المأزق ولم أستطع الخروج منه.. ماذا سأقول لزوجتى سامية فى مصر «دى كانت تتجنن وتقتلنى»..
فضحك زعيم القبيلة عندما سمع منى هذا الكلام وأكد لى أن الرجل عندهم لا يعمل وغير ملزم بالإنفاق على المنزل أو الزوجة ولكن المرأة التى تقوم بالعمل والإنفاق عليه وكانت دهشتى بالغة حين رأيت بعينى الرجل فى هذه القبيلة يقتصر دوره على الجلوس تحت شجرة ليدخن ويأكل ويشرب بينما نساؤه يعملن لتوفير كل متطلباته ولم يكن غريباً ما سمعته وشاهدته بأن المرأة هى التى تطلب من زوجها أن يتزوج عليها لكى تجد من يساعدها فى العمل كما أن الجنس منتشر فى هذه القبيلة بشكل كبير فالمضاجعة دون زواج مباحة ولكن بشرط ألا تحمل الفتاة فإذا حملت تقدم هى وعشيقها أمام محكمة القبيلة وتكون الفضيحة والعار لها ولأبنائها من بعدها.
كما أننى شاهدت الحملات التبشيرية حيث يأتى المبشر المسيحى وهو مؤهل على المستوى الشخصى لجذب اهتمامات هذه الشعوب ففى الغالب يكون طبيبا بشريا وبيطريا وخبيرا فى الزراعة فيستطيع علاج البشر والحيوانات ويساعدهم فى الزراعة وكل ذلك من أجل أن يكسب ثقتهم ويصبح من السهل عليه جذب هؤلاء من القبائل البدائية إلى المسيحية وكانت هذه القبائل ترفض المسيحية وتقبل الإسلام لتعدد الزوجات، وذات مرة قالوا للمبشر كيف يمكن لداود أن يتزوج من مائة سيدة وسليمان ألف سيدة وأنت تريدنا أن نتزوج امرأة واحدة فقط، وحضرت محاضرة دينية بين المبشر وأبناء القبيلة يعرض من خلالها دينه فكان يقول إن الرب أمرنا بأن نبتعد عن السرقة والزنى، ولكن قال أحد رجال القبيلة، الإنجليز هم اللصوص الحقيقيون فقد سرقوا الأبنوس وثرواتنا ومناجمنا وحملوها على المراكب إلى بلادهم اذهب وانصحهم واتركنا فنحن عراة ولا يوجد علينا ما يسترنا غير ورقة توت، كانوا أذكياء رغم بساطة معيشتهم.
كانت رحلتى بالصحراء الكبرى هى أطول الرحلات التى قضيتها فى حياتى فقد استغرقت شهورا عديدة التقيت خلالها بقبيلة «الطوارق» التى قابلت فيها سيدة عمرها فوق الـ٨٥ عاما ورغم أن الإسلام لم يصل إلى جزء كبير من هذه القبائل إلا أنهم جميعا كانوا يحفظون القرآن كاملاً، رغم أنهم وثنيون، ولكن من الغريب أنهم حين يأتيهم الموت يرفعون إصبعا واحدا إمعانا وإشارة إلى الخالق الواحد القهار.
ومن غرائب هذه القبيلة أن الرجال فيها منقبون «ملثمون» والنساء متبرجات وهذا ما استوقفنى كثيرا أفكر فى الأمر محاولا أن أجد تفسيرا منطقيا لما يفعلون، وسمعت الكثير وكان ضمن ما سمعت أن الرجال دائما فى الصحراء يسفون الرمال ولكن المرأة لاتخرج من بيتها. لكن اكتشفت أن ديانات هذه القبائل تعتبر الفم عورة لأنه مصدر خروج الخير والشر والرجال فى الطوارق يفتخرون بأنهم ظلوا مع زوجاتهم طوال أربعين أو خمسين عاما ولم تر فمه أو تقول الزوجة: لقد عشت مع زوجى أربعين أو خمسين عاما ولم أر فمه.
وعندما ذهبت إلى مدينة «غدامس» الليبية فى قلب الصحراء تعرضت لدرجات حرارة شديدة ومختلفة وهذا ما كان يصيبنى بالبرد دائما وكنت أخاف بشدة من العقارب السامة والثعابين والحشرات التى يمكن بلدغة بسيطة منها أن أموت قبل أن يتم إسعافى، ففى الغالب معظم هذه القبائل تعيش بعيدة عن المدن والقرى التى يوجد بها المستشفيات وإن وجدت عندهم فتكون بدون استعداد كاف.
دخلت «غدامس» الإسلام تحت قيادة عقبة بن نافع وتحول جزء كبير منها إلى الإسلام وكان يثيرنى ويدعونى إلى التفكير كيف سافر الفاتحون الأوائل إلى الصحراء حفاة عراة من أجل هدف عظيم وسام وأى طاقة أطلقتها كلمات القرآن فى هؤلاء الناس. أكثر ما أسعدنى فى «غدامس» قبل أن أنتقل إلى قبيلة الطوارق لأعيش فى خيمهم هو ذلك الفندق الوحيد الموجود والعتيق وتلك الغرفة التى نزلت فيها التى قيل لى إن المارشال «بالبو» سكنها من قبل وأن «صوفيا لورين» كانت هذه غرفتها أيام تصوير فيلم «الخيمة السوداء».
أما رحلتى إلى الهند فكانت أكثر رحلاتى متعة بعدما شاهدت عن قرب كل هذا الكم الهائل من الديانات.. الهنود مختلفون فى كل شىء حتى فى صناعة أطعمتهم المليئة بالشطة والتى كان يصعب على تناولها لأنها تصيبنى بالتهابات معوية حادة.
وفى ذات يوم وأنا أتجول فى شوارع دلهى مع فوج من الأصدقاء المصريين والهنود والعرب شد انتباهى وأسرنى ذلك الرجل الذى رأيته أول مرة فى أحد شوارع دلهى عاصمة الهند، والذى كان نقطة تحول فى حياتى بعد ذلك، وهو يجلس فى حالة ثبات ويرتفع فى الهواء بلا مساعدة من أحد وبالفعل بهرتنى قدرته العجيبة على التحكم فى ذاته، وبهرنى أكثر عندما سمعت قصته فهو «براهما واجيوارا» كان يعيش طفولة مرفهة وجميلة داخل قصر كبير وتلقى تعليمه فى إنجلترا بجوار أبناء الملوك والأمراء وهو يتحدث الإنجليزية ويحيط بالفلسفة الغربية وآدابها وعضو فى جمعية مارلبون الروحية بلندن، ولكنه عاد إلى الهند ليخلع البدلة الأنيقة ويهجر بيته وزوجته وأبناءه ويهيم فى الجبال والغابات حافيا عاريا لا تستر جسده إلا خرقة قصيرة وقديمة».
استطعت أن أصل إليه عن طريق صديق هندى قديم ودخلت إليه داخل الكهف الذى يعيش به فى أحد الجبال وعندما قابلته رحب بى وأعطانى بعض الحبوب المملحة لأتناولها وأراد أن يملأ لى جرة من الماء فنزل سلالم بئر داخل الكهف حتى استقر فى قاع بئر الماء وسكنت حركته تماما ولم يخرج منها إلا بعد ٤٥ دقيقة كنت خلالها أصرخ فى صديقى الهندى لنحاول أن ننقذ الرجل ولكنه كان يضحك ويقول هذه أشياء بسيطة بالنسبة له، وجلس براهما يتمتم بقراءة آيات من الإنجيل والتوراة ثم من كتب البوذية بعد أن أعطانى جرة الماء وقال اشرب فإنى أنزل للحصول على الماء الطاهر من قاع البئر، وقبل سفرى إلى القاهرة ذهبت إليه أرتجف خوفاً من الدنيا ومن الآخرة، ولكنه مسح بيده على رأسى وأعطانى منديلاً به صرة ملح وسافرت عائداً إلى مصر وأنا على يقين بأن السماء بالقرب من الله أفضل من الحياة بالقرب من الناس.
وبعد الهند ذهبت إلى ألمانيا التى لا أستطيع أن أنسى ما قضيته من ليال فى كباريهاتها المحترمة، وألمانيا بلاد مهذبة جدا وأهم ما بها هو الورش والمصانع، فكنت أنام على مصنع وأستيقظ على ورشة، حتى شعرت بالملل فقلت لأحد أصدقائى الألمان أليس عندكم «ملاهى» أو كازينوهات واصطحبنى يوم الإجازة لأحد الكباريهات ليست كالموجودة فى مصر ولكن كل من كانوا داخله من العجائز، وجلست أشاهد الاستعراض وأصغى إلى موسيقى فاترة حالمة ففى ألمانيا الكباريهات محترمة وفى أحد الأيام تجولت وحدى لأشاهد ألمانيا بنظرة باحث وعرفت أن هناك شوارع مخصصة للفجور والدعارة والكباريهات المنحطة، وعندما ذهبت إلى هناك عرفت أن هذه الشوارع موجودة من أجل تلبية رغبات السياح وبعد تجولى داخل الشارع عرفت أننى لا أتفرج على ألمانيا بل أتفرج على نفسى وعلى الصورة التى فى ذهن الألمان عنى وعن السياح.
وفى هامبورج كانت هناك لحظات كثيرة طريفة بدأت من اللحظة الأولى حيث الوقت عند الألمان أهم شىء بعكسنا نحن المصريين، وأتذكر جيدا عندما كنت أقف فى صالة الفندق أكتب خطابا إلى «روزاليوسف» وإلى جوارى الملحق الصحفى الألمانى يشد شعره لأن المبعوثين المصريين لا يفهمون أن هناك مواعيد يجب الالتزام بها، وعندما صعدت بعد وصولى للفندق فى هامبورج لغرفتى لأستريح وعندما فتحت باب الغرفة كانت خاوية تماما ولا يوجد بها سرير وغضبت جدا فقد كنت منهكاً من السفر وأريد النوم، وإذا لم تكن هذه غرفتى فسيكون هناك وقت حتى أنتقل إلى الغرفة الجديدة أو سأنتظر حتى يفرشوا هذه الغرفة، وبسرعة بحثت عن الخادم وعندما جاء أبديت له دهشتى من معاملتهم للسواح فى ألمانيا.. أتعطوننى غرفة فارغة هل سأنام على الأرض وأصاب بالتهاب رئوى وبرد..
وابتسم الرجل ونظر إلى شعرى الأكرت ثم اتجه إلى زر فى الحائط وضغط عليه فخرج سرير كامل المعدات من داخل الحائط، واتجه إلى اليمين وضغط على زر آخر فخرجت كنبة، وشد حبلا فى الخلف فخرج مصباح وكتب وكرسى ومائدة عليها راديو وتليفون ونوتة مذكرات وإعلانات وهدايا، وشعرت بالخجل من جهلى بالتكنولوجيا الحديثة- وأنا كاتب وروائى- أمام خادم ألمانى.
لكن الأيام القليلة التى عشتها فى روما شعرت خلالها كأنى أعيش داخل لوحة فنية رائعة ولا أريد مغادرتها، شاهدت المدينة وكأنها قديمة وتبدو كمتحف، ففى كل مكان تماثيل قديمة ونافورة، وروما حافظة أمينة لتاريخ الفن الرومانى وكل آثار الفن الخالدة فيها أقيمت بتبرعات من جميع أرجاء أوروبا بدعوة من البابا من أجل المسيح، وفى متحف الفاتيكان شاهدت قصة المسيحية مرسومة على الجدران بريشة دافنشى ورافائيل، وفى الكنائس والمعابد شاهدت الكهنة، ووجدت للكاهن المصرى غرفة خاصة فى متحف الفاتيكان قابلت فيها فراعنة أعرفهم وملوكاً قدامى من الأسرات الأولى ولا شك أن تماثيلهم سرقت وعبرت البحر إلى إيطاليا ثم بيعت للبابا والكنيسة.
وفى روما عرفت أننى لم أفهم النحت الفرعونى فى مصر وتعلمت الفرق بين النحت المصرى الفرعونى والنحت الرومانى، فعندما نشاهد التمثال الفرعونى من بعيد ومن قريب ومن كل الزوايا نجده جميلاً أما التمثال الرومانى فيبدو من بعيد وكأنه «لعبكة» لكثرة ما فيه من التفاصيل والحركات ولتعدد الشخصيات فى كل تمثال.
وفى كنيسة القديس بطرس وجدت نفسى تحت قبة هائلة من الرخام ودفعت ستين ليرة لكى أشاهد المتحف البابوى ودخلت سرداباً يحتوى على أرواب وقلانس وصلبان وتيجان من الذهب كل تاج منها يزن بضعة أرطال، ومصاحف مدهبة ضخمة فى حجم الدولاب وجواهر نادرة، وعجبت لهذا البذخ الأسطورى وكان هذا البريق الخافت والذهب والماس والمجد والسلطان ممتلكات للبابوات الزاهدين الذين تركوا الدنيا خلف ظهورهم.
كنت أمصمص شفتى وأقول مساكين هؤلاء البابوات.. إن هذه التيجان حمل ثقيل جدا بالفعل، وجلست أتأمل كل هذا فى حالة حيرة، وعلى الفور تذكرت الخديو إسماعيل الذى حاول أن يجعل القاهرة قطعة من روما بعد أن جمع الفن الكلاسيكى وألقى به فى الميادين من خلال التماثيل والعمارات الأنيقة التى مازلنا نراها حتى الآن، ولكن إذا اتبعنا خطى إسماعيل فسنجعل من القاهرة بلدا قديماً ومتحفاً للذكريات.
__________________



رد مع اقتباس
  #28  
قديم 17-01-2010, 12:08 PM
الصورة الرمزية Bendary
Bendary Bendary غير متواجد حالياً
من انا؟: مصرى مكافح بشرف
التخصص العملى: Trading - Buiness Development
هواياتي: طوابع - رسم - قراءة ، لكن بعد الشغل والجواز بقت الهوايه : أكل العيش
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
الموقع: دايما بين احبابى
المشاركات: 1,066
Bendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond repute
افتراضي رد: دعوة لجمع مذكرات د. مصطفى محمود

الحلقة ال (12)
رحلاتى بين أقصى الحضارة والبداوة
فتح العالم الكبير والمفكر الجليل الدكتور مصطفى محمود دفاترة ليطلعنا على أهم رحلاته التى مازال يتحدث عنها والتى طاف خلالها العالم وجمع خلالها فكره ومقتنياته النادرة التى مازال يحتفظ بها حتى الآن داخل متحفة الجيولوجى والمائى الموجود فوق سطح مسجده من أحجار وأسماك نادرة والتى جمعها من رحلاته المختلفة لباريس ولندن ولبنان. لقد صور لنا مصطفى محمود كل مظاهر الحياة داخل هذه الدول التى ربما ذهب البعض إليها ولم يستطع التعبير عما تحمله داخلها من معان حقيقية،
وربما يكون البعض لم يذهب إليها حتى الآن. لم يكن يسرد ما شاهده كزائر عادى إنما كان يصور لنا ما شاهده وعايشه بنظر الفيلسوف فقال: فى باريس كنت أقف طويلا أمام هذه الوفرة من الأجسام العارية الموجودة فى كل مكان.. الموجودة على إعلانات القمصان والعطور والدعاية السياسية والأدوية وطوابع البريد الموجودة على مسارح الاستربتيز فى البيجال،
والفرنسيون يشاهدون هذه العروض العارية فى اهتمام، ولكن ليس منبع هذا الاهتمام الحرمان الجنسى أو الفضول لرؤية الأعضاء التناسلية وإنما منبعه فلسفة الجسد العارى والهدف منها اعتياد العين على رؤية الجسد العارى لنقل التفكير من موضوع الإثارة الغريزية إلى موضوع التأمل الذهنى البحت فى كل ما يمكن أن يرى فى الجسد العارى.
ولم أشاهد فى باريس هذا النوع من الفن فقط بل كان هناك المسرح الجاد وعشرات المتاحف التى تعرض آثارنا الفرعونية بذوق وجمال وقرأت فيها أيضا صحفا جادة. وكما رأيت الباريسى يسكر طيلة الليل فى رأس السنة فهو نفسه الذى يعمل بيده وأسنانه طيلة العام وفيها أيضا أتوبيسات قديمة ولكنها تسير بحالة جيدة نتيجة الإشراف والصيانة الدائمة لها.
ولا يمكن أن أترك رحلتى فى باريس لأنتقل إلى رحلة فى دولة أخرى قبل أن أتكلم عن أهم ما شاهدته من روايات مجسدة على المسرح فى باريس، حيث إن الفترة التى زرت فيها باريس كانت تتكلم عن الله والإنسان، فكتاب المسرح قدموا من خلال أعمالهم أن الله فى إجازة ولا أحد يرعانا فى السماء، فشاهدت مسرحية «مقبرة العربات» للمؤلف الإسبانى «ارابال»،
حيث كان الديكور الذى لم يتغير طوال العرض هو خرابة قذرة تتراكم بها العربات القديمة ثم نفهم أن ما نراه هو لوكاندة وصاحبها يؤجر غرفها ويستغل زوجته بأن تضاجع نزلاء اللوكاندة عند اللزوم وإذا رفضت يضربها ويلقى بها فى الغرفة لتعود له بأجر مضاعف.
ويلاحظ أن ممارسة الجنس فى هذه الخرابة هى وسيلة لقتل الوقت أو استعراض القوة فى إذلال الرجل للمرأة أو العكس، لا أحد يمارس الجنس للحب واللهو حتى يظهر المسيح وهو عصرى جدا فهو يمارس الجنس مع زوجة صاحب اللوكاندة ونعرف أنه يفعل هذا لأنه يحبها وأنه الوحيد الذى يمارس الجنس من أجل الحب ويتآمر عليه الرجال لأنه سيفسد عليهم حياتهم السهلة، ويبلغون البوليس ويصلبونه وبالطبع كان جميع أبطال المسرحية عراة تماما.
كما شاهدت فى السينما فيلما يحمل اسم «نهاية الأسبوع» لجودار وكان محاولة شديدة التطرف.. يبدأ الفيلم بحوار بين زوجين وتعتذر عن الخروج معه لأنها مريضة ونفهم بعد ذلك أنها كذبت لأنها تريد أن تلتقى بعشيقها ونرى أن الزوج استفاد من الفرصة فذهب إلى عشيقته، ثم تذهب الكاميرا إلى بيت العشيق ونرى الزوجة عارية ملط وتحكى للعشيق اعترافات مفصلة،
حينما تم تبادل الزوجات بين زوجها وصديقه وكيف ضاجعها صديق زوجها، ثم تنتقل الكاميرا إلى اليوم الجديد وهو نهاية الأسبوع والزوج والزوجة يستقلان سيارتهما فى الطريق إلى الأم فى الريف، والطريق الريفى مزدحم وفية مئات السيارات بسبب حادث وكل صاحب عربة يلعن ويسب، لا أحد يفكر إلا فى نفسه وفى الوصول إلى هدفه قبل الآخرين وينفتح الطريق لنرى حوادث تصادم بشعة راح ضحيتها شباب وبنات وأطفال قتلى على جانبى الطريق ولا أحد يتوقف ليرى وانما تمر السيارات مسرعة، ولكن المأساة لم تنته، فعلى جانبى الطريق عربات محطمة محترقة وحوادث وقتلى..
ونفهم من هذا أن المؤلف يرمز إلى النيران المشتعلة على الجانبين فى فيتنام والكونغو ونيجيريا والشرق الأوسط، بينما فى أوروبا القبلات على الأرصفة ويقضون إجازة نهاية الأسبوع. ثم يفاجأ الزوجان بقاطع طريق يقطع طريقهما ثم يقفز فى هدوء إلى داخل العربة ويقول للزوجين إنه الله وإنه يريد الذهاب إلى لندن وينظر الزوجان إليه فى سخرية ولكن يرفع الرجل يده إلى السماء ويبسطها فإذا بها أرنب، ويقول إنه مستعد أن يجيب لهما أى طلب،
ويطلب الزوج بعد تفكير عربية مرسيدس موديل العام وتطلب الزوجة فستان سواريه ويصرخ الله فى ازدراء: «ولكنك يا رجل تملك سيارة مرسيدس موديل العام السابق وأنت يا امراة لديك خمسون فستان سواريه» ويستعجب بقوله: هل تلتقيان بالله وتطلبان مثل هذه المطالب البرجوازية، بصراحة يا بشر أنا أستحقركم جدا، ويقفز نازلا من السيارة ويصرخ الزوجان: إننا نشك فى أمرك أحدث لنا معجزة.. فيجيب الله وهو يختفى: «أنتما أحقر من أن أثبت لكما وجودى»، ويريد أن يقول الفيلم إن أوروبا تعيش فى عالم بلا إله وبلا أمل وأنها على حافة الهاوية.
كما شغلنى عالم الأرواح وحاولت أن أتعرف عليه كنوع من الفضول عن طريق حضور جلسات تحضير الأرواح ولأننى أيضا أرفض المسلمات فى هذا الجانب وأريد أن أتعرف على أسراره وكانت حالة من الفكاهة الشديدة عندما علمت أننا فى مصر لسنا الوحيدين المهتمين بهذا النوع الذى ربما يكون علما،
ووجدت أن فى لندن مبنى أنيقا من طابقين، فى الطابق السفلى مكتبة الأرواح التى تحتوى على كل كتب تحضير الأرواح والتعرف عليها وترجمة لكل الكتب السماوية بما فيها القرآن، وعرفت من إحدى السيدات الموجودات بالمبنى أن هناك محاضرات يومية عن المشكلات الروحية، وعروضا خاصة يقدمها الدراويش الإنجليز دون وسطاء،
وكنت مسرورا جدا لأنى سأرى الدراويش الليلة، الذين اعتدت أن أراهم أمام مقام السيد البدوى بطنطا أو السيدة زينب أو مسجد الحسين بالقاهرة، ولكن سيكونون دراويش إنجليز. وحضرت فى موعد المحاضرة ووجدت أن الكثير من الحاضرين سيدات فى أعمار الشيخوخة وبالتالى من السهولة التأثير عليهم،
كما وجدت أن سيدة هى التى ستقوم بدور الدرويش وعلمت أن هذا هو التجديد من الأجانب، فعندنا الرجال وعندهم النساء هو صراع الرجل والمرأة والمنافسة على إثبات نفسها حتى لو فى مجال العمل الروحانى. وبدأت الجلسة بقراءة ابتهالات وصلوات، والغريب أننى عرفت أنها هى التى تختار من يسألونها وأيقنت أنها لابد أن تكون نصابة فبالطبع من ستسأل أتباعها المنتشرين بين الناس داخل القاعة وعلى الفور وقفت لانصرف ولكن سألتنى إحدى السيدات عن سبب انصرافى فقلت لها: عندنا فى مصر مئات الدراويش يستطيعون أن يصنعوا أشياء أعظم من هذا..
فقالت: لماذا لا يحضرون إلينا.. فقلت لها: فعلا لابد أن نصدر لكم دراويش الحسين والسيدة زينب. وأيقنت فى هذا الوقت أننا لا نستطيع أن نصدر غير الدراويش فهم أصبحوا فى مصر أعدادا كبيرة جدا. أما عن أيامى فى لبنان «بيروت» باريس الشرق الأوسط فتعلمت منها الكثير، فلبنان هى دولة لا تمتلك البترول ولكن تمتلك الجمال الفتان الذى يجبر الناس على زيارتها ووجدت أن فى لبنان الكباريهات منتشرة فى كل مكان تكاد تكون فى كل شارع فكباريهات فوق الأرض وتحت الأرض وفوق الأسطح وفى خنادق وعندما زرتها كان الفن والمسرح والسينما غير موجودين بالمرة وذلك لأن الفن يحتاج إلى مجهود عالى ومعرض للنجاح أو الفشل والإذاعة والتليفزيون وسيلة إعلانية فقط ولكن أخطر ما وجدته داخل لبنان هذه البلد التى يتمتع أهلها بالطيبة الفائقة أنها بانتمائها إلى كيان عربى كبير تجد نسبها وكرامتها وعروبتها فلا يمكن أن تعيش لبنان زوجة للكل ولا يمكن أن تعيش لقيطة يكتب كتابها بالفرنسية ويكتب شعرائها بالاتينية أن طلاقها من عروبتها لن يضمها إلى العالم ولن يجعل مواطنها عالميا.
ثم ضحك كثيرا وهو يقول.. ما نشاهده فى بلاد الغرب من غرائب السلوك ومعتقدات متفتحة لا يتقبلها مجتمعنا الشرقى بسهولة ربما يكون أفضل بكثير مما يحدث بين قبائل الغابات الاستوائية وفى أفريقيا وفى صحراء السودان، فقد سافرت للكثير منها، وهنا أتذكر جيدا ما شاهدته داخل قبيلة الشيلوك من عادات ومعتقدات،
ووصف لنا ملامح النساء والرجال والأطفال والمنازل، وهذا ربما يدعونى أو يدعو القراء إلى حمد الله على نعمة المدنية التى نعيشها والتحضر الذى يفوق هذه القبائل التى مازالت موجودة حتى الآن بآلاف السنين.. ولكنه يجعلنا نرى، وبوضوح، الصورة التى يصورها لنا الغرب، فهذه نفس الصورة فهم يضعوننا فى نفس موضع هذه القبائل ولكن بعيدا عن تصورات الغرب والشرق التى لن تتغير إلا بمعجزات إنسانية وليست ربانية فقط،
قال: فى قبيلة «الشيلوك» كانت الباخرة تسير ببطء كأنها سلحفاة تمشى على بطنها وأنا مغمى علىّ من فرط الحرارة فى علبة السردين التى أنام فيها والمروحة تزنّ على رأسى بلا جدوى، ولا أجرؤ على أن أفتح باباً أو شباكاً فأسراب البعوض تحوم فى أفواج كثيفة فى الخارج، ولا أكاد أتخيل أن أخرج أصبعا حتى لا تهجم عليها فى وحشية وكلها من بعوض الأنوفيل حامل الملاريا،
وكانت الملاريا قد بدأت تكتسح المركب، فالريس حرارته ٤٠، واثنان من البحارة يعانيان رجفة الحمى وكنت أفتح عينى بين لحظة وأخرى وأنا فى ضباب النوم فأرى جزائر من النور تسبح طائرة على جانبى السفينة وكنت أتساءل: هل أهذى أنا الآخر؟ وأفرك عينى وأحملق حولى جيدا مازالت هناك تلك الجزائر من النور بالفعل، إنى لا أحلم، إنها جزائر من نباتات الهياسنث سابحة فى التيار تضيئها أنوار الباخرة على الجانبين،
وقد كان قمر خط الاستواء يبدو شاحبا يغلفه الضباب والبخار، وخطر لى أن أصعد على سطح الباخرة لأشاهد الطبيعة فى تلك الساعة من الليل، ودهنت وجهى وأطرافى بطارد البعوض وخرجت ألتمس الهواء، ولم يكن ثمة هواء وإنما رطوبة راكدة تتكثف على الأهداب وعلى الجلد وهواء ثقيل له ضغط، ولم تكن الطبيعة نائمة كما تصورت وإنما كانت صاخبة جياشة بالحركة والحياة، أسراب الفيلة تملأ المراعى وتماسيح النيل الضخمة تمرح حول الباخرة وقطعان سيد قشطة تستحم،
وآلاف الكروانات والبلابل والعصافير والنسور والطيور الملونة تحلق على ارتفاعات قليلة، وجيوش الحباحب المضيئة تلمع كسنون الإبر فى الظلام، وحرب الطبيعة ناشبة على أشدها: الحباحب تأكل البعوض والضفدع يأكل الاثنين، والأسماك تأكل الكل، ثم يذهب الجميع فى جوف التمساح فى صمت، على حين يطل القمر شاحبا يغلفه الضباب والبخار، ومن وقت لآخر يرشق الهدهد منقاره فى الطين ليخرج بدودة كبيرة،
ويغطس طائر اللقلق فى الماء ليخرج وفى فمه سمكة، وترتفع هامات السفانا العالية وأشجار البردى وسيقان الهياسنث على الشطآن لتحجب ما يجرى فى الداخل، لا يندو عنها صوت إلا حينما يتخللها ثعبان فيخشخش بين أوراقها وهو يسعى ليرد الماء أو يتمطأ فيل فتهوى كتل من هذه النباتات المتشابكة،
وتتفتت ويجرفها التيار فى جزائر عائمة صغيرة تنعكس عليها أضواء الباخرة فتلمع فى الظلمة كل صنوف الحياة كان يبدو عليها الانتعاش فى هذا الجو الساخن فهى تتلاقح وتتوالد وتتكاثر وتأكل بعضها وتنقنق وتزقزق وتقشقش وتفح وتنبح وتعوى وتملأ المستنقعات اللزجة وتشرب مياهها الراكدة فى شهية كالحساء وتنمو وتبلغ أحجاما عملاقة، أشجار الأدليب كانت تصطف فى طوابير شاهقة الطول على الجانبين وثمار الأدليب كانت تتساقط فى الماء كل ثمرة فى حجم البطيخة،
وهى من فصيلة الدوم وأشجار البردى كانت تنمو فى وحشية حتى تسد الأفق، التماسيح كانت تشق الماء شهباء اللون كالحة ضخمة كالبوارج الحربية، كانت هذه البيئة الساخنة هى البيئة المختارة لهذه الفصائل من النباتات والحيوانات. شىء واحد لم يكن يظهر إلا نادراً فى هذه المتاهات الاستوائية الشاسعة هو الإنسان، كل بضعة أميال كان يظهر واحد أو اثنان أو ثلاثة من الزنوج عراة، يحملون الحراب، وكلهم من قبيلة «الشيلوك»،والشيلوك والدنكا والنوير هى القبائل التى يلقاها المسافر فى هذه المنطقة من النيل بين كوستى وملكال وبور وجوبا، وزنوج هذه القبائل يسيرون عرايا وأحيانا كنت أجد الواحد منهم «عريانا ملط» كيوم ولدته أمه و«لابس كرافتة» وهم ينظرون إلى المدنية بهذه الطريقة من التريقة، فالثياب فى نظرهم مجرد تقليعة بلا وظائف، مجرد زوائد لا معنى لها، كزر الطربوش،
ومعظمنا كنا قد بدأنا نعتنق هذه الفلسفة فقد كنا نسير على سطح المركب ءنصاف عرايا لا فرق بيننا وبين الشيلوك إلا نصف متر الدبلان الذى يقتضيه الحياء التقليدى، ولكن الشيلوك لم يكونوا رواداً فى مسألة الثياب وحدها ولكنهم كانوا روادا فى كل ما هو بدائى، وكانوا يرفضون بشدة كل ما هو مدنية ويتمسكون بكبريائهم وتقاليدهم، وكانت ديانتهم وحدانية، فهم يؤمنون بإله واحد يسمونه «جوك»،
ولكن فهمهم لهذا الإله الواحد غامض ومضطرب فهو فى نظرهم خفى وموجود فى كل مكان وخالق للسماء، ولكن مشيئته لا تنفذ إلا عن طريق نياكانج وهو ملك الشيلوك القديم الذى أنشأ هذه القبيلة، وهو فى اعتقادهم لم يمت وإنما تحول إلى ريح واختفى ثم حلت فيه روح «جوك» وأصبح ممثلا لمشيئته على الأرض،
ولهذا فهم يصلون له ويقيمون له المعابد ويقدمون له القرابين ونياكانج متصل اتصالا يوميا بحياة الشيلوك، أما جوك أو الله فهو شىء مجرد وبعيد ومتصل أكثر بالكون كله، ومعابد النياكانج هى وحدات سكنية عادية يعتقد الشيلوك أن روح النياكانج تسكنها، وتتألف الوحدة من خمسة أو ستة أكواخ، مثل أكواخ السكن العادية التى يسكنها الشيلوك، مع فارق أنها أكثر اتساعا ونظافة، ويقوم على خدمتها كهنة من عجائز الشيلوك ومعهم زوجاتهم الطاعنات فى السن، ومحرم دخول هذه المعابد لأى فرد من أفراد الشعب فيما عدا هؤلاء الكهنة،
وعلى من يدخلها من النساء أو الرجال أن يكون صائما صياما تاما عن العلاقة الزوجية، والكوخ الأول من هذه الأكواخ يخصص لنزول روح نياكانج وفيه توضع أسلحته وأدواته وقيثارته وطبوله وجلود قرابينه، وعلى بابه تغرس قرون الأضاحى التى قدمت له، والكوخ الثانى يخصص للماشية التى تخص المعبد، والثالث لتخزين الحبوب وتخمير المشروبات، والرابع للكهنة والخدم والعبيد،
والخامس لتقضى فيه روح نياكانج حاجاته وتستحم وتتبول، والسادس لنزول روح نيكايا والدة نياكانج ويرتل الكهنة فى صلواتهم قائلين: «يا إلهنا نجنا، بيدك وحدك نجاتنا، أنت تملك السماء والأرض والنجوم، وبمساعدة نياكانج تقوى أذرعتنا عند الحرب وتحفظ لنا ماشيتنا وتبعد عنا المرض والجوع، كل أبقارنا مبذولة من أجلك، وكل دمائنا فداؤك». وهم يذبحون الثيران التى تقدم قرابين ويأكلون لحومها ويرمون بعظامها فى النهر، أما الأبقار فيحفظونها فى حظيرة المواشى بالمعبد.
وأهم الطقوس الدينية طقوس المطر وطقوس الحصاد، وفى يوم الاحتفال بطقوس المطر تدق الطبول فى ساحة المعبد التى تكنس وتنظف للمناسبة، ويجتمع الشباب للرقص بالحراب والسيوف والغناء لروح نياكانج، ثم يؤتى بثور القربان ويضع الكاهن فى كفه بعضا من ماء النهر ويبصق فيه ثم يرش به الثور ثم يطعنه طعنة نافذة فى أعلى الفخذ ويتركه ليدور فى الساحة حتى يخر ميتا،
وهم يستبشرون إذا اتجه الثور المحتضر إلى النهر أو إلى كوخ نياكانج ويحتفظ الكهنة بالرأس والسيقان والأحشاء ليأكلوها، ويلقون بالعظام فى النهر، ويعتقد الشيلوك أن روح نياكانج يمكن أن تحل فى عديد من الحيوانات مثل الزراف والثعبان وطائر الأكاك،
وحينما يرى الشيلوكى فراشة تقف على باب المعبد يصرخ هاتفا: «هذه روح نياكانج»، وأى شجرة تنبت بالقرب من معبد نياكانج تقدس ولا تمس ويعتقد أنها من أخشاب مقبرة نياكانج. وصيد التماسيح محرم لأن الشائع أن روح نيكايا أم نياكانج تحل فيها، وهم يعتقدون أن روح نيكايا تعيش فى الماء ولذلك يلقون بالشاة التى يقدمونها قربانا لروحها وهى حية ومقيدة من أرجلها فى الماء،
وكل ملوك الشيلوك مقدسون على مثال نياكانج ولذلك فهم يدفنون وتقام لهم معابد، ولكن تكون أصغر حجما، والموتى من الأجداد يعاملون معاملة الملوك ويعتقد أن فيهم روح جوك وأنهم على اتصال بالله، وأرواح الأجداد لا تنفصل فى ديانة الشيلوك عن أرواح الملوك أو روح نياكانج أو روح جو،
ويتشاءم الشيلوك من الملك الذى يطعن فى السن ويقعده المرض، ويعتقدون أن ما يصيب الملك من مرض وشيخوخة لا يلبث أن يحل بالقبيلة كلها وكانوا فى الماضى يقتلونه والقرابين البشرية غير مألوفة عند الشيلوك ولكنها كانت تقدم فى أحوال نادرة عندما تفشل الطقوس العادية فى استدرار المطر.
__________________

Mohamed Bendary
اللهم فرغنى لما خلقتنى له ولا تشغلنى بما خلقته لى
اللهم ولا تحرمنى وانا أسألك ولا تعذبنى وانا استغفرك
مصر هاتفضل غاليه عليا
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 17-01-2010, 12:09 PM
الصورة الرمزية Bendary
Bendary Bendary غير متواجد حالياً
من انا؟: مصرى مكافح بشرف
التخصص العملى: Trading - Buiness Development
هواياتي: طوابع - رسم - قراءة ، لكن بعد الشغل والجواز بقت الهوايه : أكل العيش
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
الموقع: دايما بين احبابى
المشاركات: 1,066
Bendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond reputeBendary has a reputation beyond repute
افتراضي رد: دعوة لجمع مذكرات د. مصطفى محمود


الحلقة(١٣):عشت بين سكان «الدنكا»
الإنسان فى المناطق القطبية سمين مكتنز بالدهن، تماما مثل الدب والحوت، ليقى نفسه غائلة البرد، وهو فى المناطق الاستوائية الحارة نحيل هزيل أسود كأنما اخترع لجسمه مظلة تقيه الشمس وسحالى الكهوف، التى تعيش فى الظلام لا وظيفة عندها للبصر ولا للألوان ولهذا فهى عمياء وبلا لون، على حين أن سحالى البرارى حادة البصر وملونة
مصطفى محمود
أمران عُرف بهما مصطفى محمود.. الأول أنه حقق كل حلم خطر على باله حتى لو كان حلمه ذات يوم أن يحصل على ما حصل عليه السندباد.. فهذه الشخصية الأسطورية التى جابت العالم وحصلت على تجارب ومعارف أسطورية حلم بها الطفل مصطفى محمود منذ ثمانين عاما وهو يقرأ قصصه المرسومة على ورق أصفر، والتى كان والده يحضرها له وهو عائد من عمله.. وبعد ثلاثين عاما حقق الشاب مصطفى محمود حلمه بعدما جاب مئات الدول والقبائل الأفريقية والمناطق المجهولة فى صحراوات أفريقيا وأدغال أمريكا الجنوبية وجبال آسيا..
حاول الوصول إلى أعماق المناطق التى يحط فيها ولم يشاهدها من الخارج، ويهتم بالتقاط صور له أمام المعالم السياحية كما يفعل أى سائح لدرجة أن يسير من وسط أفريقيا إلى القاهرة على أقدامه على مدار شهور، يحدد منابع النيل، ويخترق أدغالاً لم نسمع بها ويعيش مع أبناء قبائل هذه الأدغال.. ثم يذهب إلى لندن ليزور بيج بن وفقط بل اخترق أحياء لندن غير المعروفة، ودخل إلى أزقة وشوارع مجهولة ووصل إلى منازل وأوكار الروحانيات الشهيرة فيها.. هل شارك مصطفى محمود فى جلسات تحضير الروحانيات؟
نعم، شارك وسجل وحلل ثم ضحك فى النهاية، وقال إن دراويش السيدة أكثر إتقانا من علماء تحضير الأرواح الإنجليز المشهورين الذين تُكتب عنهم موسوعات وكتب.. وكل ما سبق يعتبره البعض كثيرا جدا، لكن مصطفى محمود وحده يعلم السر فى ذلك، وقد قاله بالفعل، إن كل ذلك إشباع لرغبة طالما انتابته وهو صغير بأن يعيش ما عاشه السندباد، وفقط.
الأمر الثانى الذى اشتهر به مصطفى محمود بعد تحقيقه لأى حلم خطر على باله وهو طفل.. أنه لم يأخذ الدين ويتقبله كالآخرين.. وفى رحلته غير المسبوقة بين مذاهب العالم مر على وبكل مذاهب الأرض، ففى آسيا راقب عبدة النار وعبدة الأبقار وعبدة الجبال والشمس والأعضاء الجنسية، وفعل الأمر نفسه فى الأمريكتين شمالا وجنوبا.. ثم مرّ بأوروبا زائرا، محللا ومفسرا لكل ما تراه العين، وحاكيا لما نعرفه عن تلك الدول المتقدمة.
لكن.. ما أكثر التجارب تأثيرا على الدكتور مصطفى محمود؟
إنها رحلته إلى قبائل الدنكا، التى أشبعت عنده الشقين السابقين: غريزة الترحال، وغريزة المعرفة الدينية.

ويقول فيلسوف الشرق عن هذه الرحلة: قبيلة «الدنكا» التى تعيش على ضفاف النيل الأبيض بالسودان أكثر قبائل الغابة تدينا، وهم يعتبرون كل ظاهرة تحدث فى الحياة اليومية حتى الظواهر التافهة إشارة إلهية تستدعى ذبح شاة وتقديم قربان، وأثناء إقامتى بينهم حطت طائرة أوروبية فى تونجى بين قبائل الدنكا أثارت حالة من الرعب كانت نتيجتها أن ذبحت أكثر من خمسين من الثيران وقدمت قرابين، وتقدم رجل عجوز من الدنكا واعترف بجريمة قتل كان يخفى خبرها منذ سنين،
ورأيت رجلاً من الدنكا وهو يقف فى حديقته ورأى ثمرة كبيرة من ثمار المانجو أكبر من الحجم العادى فيهلل ويكبر ويأتى بشاة ويدور بها عدة مرات حول شجرة المانجو وينتظر حتى تبول فيذبحها ويسكب دمها على الثمرة ويقطع أذنيها وأطرافها ويعلقها على سارية ويسلخها ويوزع لحمها على جيرانه، ويقدم جلدها لكهنة «نيالاك»، وهو الرب الذى يعبده الدنكا، وينظرون إليه باعتباره خالق الدنيا ومؤسس نظامها.
و«نيالاك» معناها الحرفى «الذى فى السماء» أو «الأعلى»، والقوة الروحية الثانية التى يؤمنون بها هى «دنجديت» صانع الأمطار ولـ«دنجديت» قصة مثيرة، فقد أنزله الله من السماء حيث بعث بالأم المقدسة من سمواته فهبطت على قبيلة أديرو وبطنها حامل والتف حولها القرويون وذبحوا الذبائح والقرابين فرحين مهللين، وابتنوا لها كوخا جميلا، وبعد شهر كانت تضع مولودا ملائكيا له أسنان كأسنان الكبار ويبكى من عينيه دما،
وقالت الأم المقدسة وهى تشير إلى طفلها: سيكون هذا الطفل راعيكم وحامى دياركم، وطلبت منهم أن يقدموا له الشياه والأبقار قرابين فقدموا لها ما طلبت فانشقت السماء عن أمطار غزيرة لم يشهدوا لها مثيلا، ومن ذلك اليوم أطلقوا على الطفل اسم «دنجديت»، المطر الغزير، وعاشوا تحت حكم «دنجديت» سنين طويلة حتى بلغ «دنجديت» سن الشيخوخة ثم اختفى فى عاصفة فلم يُعثر له على أثر، وفى بعض الحكايات أن «دنجديت» مازال حيا وأنه خالد لا يموت وأنه يتنقل بين قبائل الدنكا متلبسا صورة بشرية،
وفى إحدى الأساطير أن «دنجديت» هذا اختلف مع زوجته «أبوك» وأرسل عليها طائرا قطع حبل النجاة بين السماء والأرض، ومن ذلك اليوم والسماء منفصلة عن الأرض، ولـ«دنجديت» معابد كثيرة فى قرى الدنكا، ومعبد «دنجديت» وحدة سكنية عادية تتألف من ثلاثة أكواخ، أحد هذه الأكواخ هو مسكن «دنجديت»، ويقوم عليه اثنان من الكهنة هما الوحيدان اللذان يدخلانه، وفى المعبد مجموعة من الحراب يقال إن «دنجديت» نزل بها من السماء،
ويقال إن من يسرقها يموت أو تقطع يده، وحينما يتقدم واحد من الدنكا بقربان إلى كاهن الـ«دنجديت» ويشكو من عقم زوجته مثلا فإن الكاهن يمهله حتى يرى «دنجديت» فى الحلم وهو فى العادة لا يقبل منه قربانا حتى يأتيه فى الحلم ويعلنه بقبول القربان، وحينئذ يأذن الكاهن بالمثول بقرابينه، وبعد تقديم القربان يمسح الكاهن على رأس الزائر بمسحه من تراب المعبد ثم يدهن جسمه بالزيت المقدس ثم يأخذ محتويات أمعاء الضحية وينثرها على المذبح وأحيانا يقدم الزائر هدية من التبغ مع القربان.
والدنكا يعتقدون أن كل إنسان له روح أو شبح يخرج منه بالموت، ويتجول فى كل مكان، وهو الذى يسبب الأحلام، وحينما يحلم الواحد منهم بأن روح أبيه الميت جائعة فإنه يبادر حينما يستيقظ إلى وضع إناء فيه بعض الدقيق والزيت إلى جوار الباب ليطعم الروح الهائمة.
وأرواح الأجداد ينظر إليها بتقديس وإجلال باعتبارها أرواحا عادية منقذة، وأنت ترى أحدهم حينما يقذف بسهمه فى الماء ليصطاد يهتف قائلا: إيه يا روح أبى الهادئة، وأحيانا حينما يتعرض لخطر داهم يهتف مناديا على روح الطوطم الحيوانى الذى يقدسه: إيه يا روح مارياك، يا روح الثعبان المقدس، قو ذراعى.
والعظماء المختارون تلبسهم الروح العليا وتكون لهم القدرة على كشف الغيب وعلاج المرضى ويطلق عليهم اسم «تيت»، ويذهب أفراد القبيلة لاستشارتهم والدنكا يؤمنون بأثر اللعنة والبركة والأب يبارك ولده بأن يبصق فى يده ويمسح البصاق على رأس ولده وعلى صدره ثم يأخذ من تراب الأرض ويحثوه عليه، والأخ يلعن أخته ويقول لها فى ساعات الغضب: اذهبى لن يكون لك ولد، ملعونة أنتِ وعاقر ما عشتِ فى هذه الدنيا، وهى لعنة لا علاج لها إلا بأن يذبح شاة ويأخذ محتويات أمعائها ويبصق عليها ويدهن صدر أخته وبطنها وهو يقول: اسمعى يا روح أجدادى لقد قلت ما قلته دون أن أعنيه وأنا الآن أتمنى لأختى ولداً جميلاً، وأن تنجب ما تشتهى من الأطفال. والدنكا يؤمنون بأن الإنسان يستطيع أن يضر غيره بمجرد أن يشتهى هذا الضرر بجماع قلبه، وأن الإرادة يمكن أن تقتل كما يقتل السيف دون أن ينتقل صاحبها من مكانه وهم يؤمنون بالقسم.
ورأيت هناك أساليب متبعة فى القسم مثل أن يلعق الرجل مطرقة الحداد وهو يقسم قائلا: لامت وأتحطم بهذه المطرقة إذا كنت أحنث فى قسمى. وساحر الدنكا يدعى أحيانا أنه يستطيع أن يؤخر غروب الشمس وهو فى سبيله إلى ذلك يجمع روث الفيل ويضعه بين الأعشاب فى اتجاه الغرب كمحاولة لإيقاف الشمس وتأخير دورانها.
وصانع الأمطار شخصية مهمة بين الدنكا وهو فى مقام شخصية الملك ويجب ألا يموت موتا طبيعيا حتى لا تحل لعنة الشيخوخة بالقبيلة، وهو حينما يستشعر دنو أجله يطلب أن تحفر له حفرة عميقة ينام فيها على عنجريب من جلد بقرة وحوله المقربون من ذريته وأصحابه ويظل بلا طعام ٢٤ ساعة حتى يفتر تماما فيهيل عليه أصحابه التراب حتى يختنق فيبادرون إلى دفنه، وفى العادة يدفنون معه ثورا أو بقرة ويصبون اللبن على قبره.
وطقوس المطر تبدأ فى نهاية الجفاف من كل عام، وأحيانا يرفض صانع الأمطار القيام بالطقوس ويعتكف فى كوخه، فيقوم كاهن آخر أقل منه مرتبة بالإشراف على الطقوس ويأخذ كوبا مثقوبا مملوءا بالماء ويعلقه على باب الكوخ ثم يدخل وهو يغمغم: يا إلهى، هأنذا أحتمى من المطر فى داخل كوخى، يا له من مطر غزير.
ويحدث فى حالات كثيرة أن تصدق السماء على كلامه فتمطر وكل طائفة من طوائف الدنكا لها حيوان تقدسه وتحرم صيده «طوطم» وتعتبر نفسها منحدرة من سلالته وأحيانا تقدس نباتا أو ظاهرة طبيعية: «الأسد.. الثعبان.. الفيل.. الضبع.. البوم.. التمساح.. الثعلب.. النار.. السحاب.. النهر.. القوقع.. النخيل.. البلح»، وأشجار البامبو كلها طواطم دنكاوية، والدنكاوى الذى يقدس الثعبان حينما يلتقى بثعبان من الفصيلة التى يقدسها يرش على ظهره التراب ليطيب خاطره ولا يتعرض له بسوء، والدنكاوى الذى يقدس الأسد يذبح خروفا ويبعثر لحمه فى الغابة ليأكل الأسد، والدنكاوى الذى يقدس الضبع يقدم الطعام للضباع كما يقدمه لأولاده، وإذا قطع رجل الشجرة التى يقدسها فإنه يموت، وإذا أحرق خشبها فإن دخانها يعمى عينيه،
وهناك حكايات خرافية تُروى عن هذه الطوطمية، فالدنكاوية الذين يعيشون فى خور إدار يحكون عن «اليك» الجميلة التى خرجت من زبد النهر، وكيف أن القرويين الذين عثروا عليها أخذوها فرحين إلى القرية وهناك تبخرت «اليك» وتحولت إلى ماء عند أول لمسة من يد رجل، وحينما ذبح القرويون الذبائح وقدموا القرابين متوسلين إلى الجميلة «اليك» أن تعود سالت مياه «اليك» العطرية وعادت إلى النهر، ومن يومها والقبيلة الدنكاوية تلقى فى النهر بقرة حية مع عجلها الصغير فى موسم المطر قربانا للجميلة «اليك».
وفى قبيلة فاكور يحكون عن «فاكور» الذى خرج من الصغر وكان يحلب العنزات ويشرب كل ما فى ضرعاتها من لبن حتى قبض عليه البطل «أيويل» وحاول «فاكور» الخلاص من قبضة «أيويل» فلم يستطع فتحول إلى سيد قشطة ثم إلى عصفور ثم إلى غزال، ولكن البطل «أيويل» ظل ممسكا به وانفجرت الصخرة التى خرج منها «فاكور» وكان لها دوى هائل، وقدم القرويون بقرة قربانا للصخرة لإرضائها فابتلعتها الصخرة ونزل المطر مدرارا وابتسمت السماء وقبلت ما قدمه القرويون من قرابين، ومازالت السماء إلى الآن تسقط على الأرض هذه الصخور ولكنها الآن لا تزيد على حصوات صغيرة.
وبعض القبائل يعبدون الشهب والنيازك التى تتساقط على الأرض ويقدسونها كالطواطم، والدنكا يطلقون على أبنائهم أسماء حسب المناسبات فيسمى الواحد منهم ابنه «ألوت» أى رطب وبارد لأن ميلاده كان فى موسم الأمطار، أو «أديو» أى الباكى لأن ميلاده صادف حدوث وفاة فى العائلة، أو «كوينير» الذى لا يعرف خاله لأنه ولد فى أثناء خلاف بين أبيه وخاله، وأسماء أخرى مثل الكل يصلى لأن ميلاده حدث بعد فترة طويلة من العقم وبعد أن اشتركت القرية كلها فى الصلاة من أجل ميلاد ابن، وبعض الأسماء تكون أسماء أجداد أو أقرباء أعزاء أو حيوانات مقدسة، كما أنهم يطلقون الأسماء على مواشيهم ويعرفون كل بقرة باسمها.
وعلاقة الدنكاوى بثوره وبقرته أكثر من علاقة إنسان بحيوان، فهو يغنى لها ويحنو عليها ويناديها باسمها ويناجيها فى خلوته ويبلغ من حبه لها أنه يؤثر موت أولاده فى موسم الجفاف جوعا على أن يذبح لهم بقرة من بقراته، وهو يفضل خلفة البنات لأن العرسان يمهرونهن أبقارا، وعادة شج الجبهة ونزع الأسنان الأربع فى الفك الأسفل متبعة فى الدنكا كما فى الشيلوك، ولا يعتبر الدنكاوى رجلا إلا بعد أن تُشج جبهته وتنزع أسنانه، والنساء يسرن حليقات الرؤوس، والرجال يصففون شعورهم ويدهنونها بالصمغ وبول البقر، والموتى يُدفنون وفقا لطقوس وتقاليد خاصة، فالميت يوضع على جنبه الأيمن ويده اليمنى تحت صدغه، وذراعاه وساقاه مثناة مثل الجنين فى بطن أمه، وتحفر له حفرة على باب الكوخ من الجهة اليمنى يدارى فيها ويغطى بجلد بقرة ثم يهال عليه التراب،
ويبقى أقاربه حول الحفرة أربعة أو خمسة أيام نائمين فى العراء، وتحثو النسوة التراب على وجوههن ويندبن، ويذبح ثور ويقدم لروح الميت لترضيته حتى لا يأخذ معه بقية العائلة، وتبنى بالقرب من الحفرة طابية من الطين يرشق فيها ضرنا الضحية وتوضع فى وسطها عصا يتدلى منها حبل البهيمة، إشارة إلى أن القربان تم تقديمه، ويمتنع أهل الميت خمسة أيام عن شرب اللبن، وتطلق النساء شعورهن ولا يحلقنها طوال هذه المدة.
وبعد أن أنهى مرحلة أردنا أن نسأله السؤال الأهم: هل اكتفيت؟ وتكون الإجابة: بالطبع لا، ولو فعلت مثل ما فعلت مائة مرة.. لو حصلت على عمر آخر وخيرونى بين أشياء عديدة فعلتها لاخترت السفر.. الترحال.. إنها كفيلة بأن تزرع بداخلك أى شىء آخر، فالسفر سيعلمك التاريخ، ويعلمك الفن، ويعلمك التجارة واللغات والتعمق فى الدين.

أما الجديد الذى فاجأنا به فيلسوفنا الأكبر مصطفى محمود فى الكلام عنه، فهو الدخول مرة أخرى فى معترك السياسة وآراؤه فيما مرت به مصر فى العصر الذى مرّ به، وهو الذى مرّ بالملكية، وخاصمته الناصرية، وتزوج العصر الساداتى، وما سر السيارة السوداء التى حملت أرقاماً سوداء برقم ( ١)، التى كانت تحمله كل يوم جمعة من كل أسبوع إلى مكان مجهول؟ وهل كان يحتل منصب المستشار السرى للرئيس السادات؟ ولماذا رفض منصب الوزير الذى عرضه عليه؟
__________________

Mohamed Bendary
اللهم فرغنى لما خلقتنى له ولا تشغلنى بما خلقته لى
اللهم ولا تحرمنى وانا أسألك ولا تعذبنى وانا استغفرك
مصر هاتفضل غاليه عليا
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 17-01-2010, 03:45 PM
الصورة الرمزية AbOnOrA
AbOnOrA AbOnOrA غير متواجد حالياً
Aِِbo(Nora&Islam&Judy)
Wael Magdy Salah
من انا؟: ابو نورا واسلام
التخصص العملى: IT Consultant
هواياتي: Computers, Automotives
 
تاريخ التسجيل: May 2008
الموقع: ام الدنيا مصر
المشاركات: 17,076
AbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond reputeAbOnOrA has a reputation beyond repute
افتراضي رد: دعوة لجمع مذكرات د. مصطفى محمود

تسلم ايدك يا استاذنا
__________________



اخر موضوعاتى
قريباً تقرير وتجربة اداء دايهاتسو تريوس * تويوتا راش

رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

 MasrMotors غير مسؤول عن أي اتفاق تجاري أو تعاوني بين الأعضاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي MasrMotors ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر


الساعة الآن 09:49 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
www.MasrMotors.com ™ Copyright ©2008 - 2024
Egyptian Automotive Community
جميع الحقوق محفوظة - مصرموتورز 2008 - 2017