الأقزام...
لك الحق أن تفخرَ (لاحظ النون المفتوحة بعد حرف النصب) فأنت مصري... من بين كل بلاد العالم تنفرد مصر بأنها الدولة الوحيدة – في الوقت الحالي – التي تعمل كجهاز طرد مركزي لأبنائها من المتفوقين الذين يعانون من كل شيء بداية من تدني مستوى المعيشة وانتهاءً بالكوارث مرورا بأزمات طاحنة كحكومة النظام السابق وأزمة رغيف العيش وصخرة الدويقة وعبّارة السلام والشرطة التي كانت لا تحمي سوى النظام وانتكاسة الثورة وغياب الأمن وانتشار البلطجة وقطاع الطرق وكل ما نعانيه في وطننا الحبيب.
لك الحق أن تفخرَ (لاحظ النون المفتوحة بعد حرف النصب مرة أخرى) فأنت مصري تشهد أعلى حالات الاحتقان الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وبين مصر والجزائر، وبين محاكمة مبارك التي صارت وكأنها هي كل هم المصريين في الوقت الحالي فصارت الحدود تسمح بتهريب آلاف أطنان المخدرات، هذا غير انتشار البلطجية وانتشار السلاح، دون حتى مكسب واحد يمكننا أن نقول أنه تحقق بعد الثورة، سوى إسقاط رأس نظام فقط بينما النظام نفسه ما زال يحكم الدولة باعتبار أن الحكومة السابقة كانوا مجموعة من البلطجية، والفرق الوحيد بينهم وبين الحاليين المنتشرين في كل مكان، هو أن بلطجية النظام كانوا أقرب إلى الرقيّ بحكم سنوات طويلة من النهب.
لك الحق أن تفخرَ (لاحظ النون المفتوحة بعد حرف النصب مرة أخرى) عندما يقوم الإسرائيليون بقتل جنودنا على الحدود بينما يكون رد فعلك هو بناء جدار عازل حول السفارة الإسرائيلية لحماية السفارة وكأن الضحية يجب عليه أن يموت في صمت وإلا اعتبرته الحكومة "قليل الأدب" وعار على "الثورة".
لك الحق أن تفخرَ (لاحظ النون المفتوحة بعد حرف النصب مرة أخرى) عندما تمر من ميدان التحرير لتجد الجميع لهم مطالبات وتجد أن هناك من يتظاهر لأي هدف، وكما تحدث المخرج الشهير (ليلوش) عن الفن لأجل الفن، وكما تحدث نزار قباني عن الحب لأجل الحب، فنحن نتظاهر لأجل التظاهر.
من الصعب بحق أن تحاول بناء دولة تحلم بها دون أن يكون لديك أرض ثابتة تقف عليها، ودون أن يكون لديك أيدولوجية معينة تعمل كحد أدنى يمكن الاعتماد عليها في ظل كل هذه الأحزاب التي راحت تتصارع على صفحات الجرائد كلها وكل القنوات الفضائية التي صارت كلها الآن من أبناء الثورة، بعد أن ظلوا أعواما يغنون (اخترناه اخترناه).
تقول صحيفة الايكونوميست في مقالها الرهيب (إذا وافقنا علي التفسير القدري للأزمات، يجب أن يحظي النظام المصري بالكثير من سوء الطالع ليمكنه الجمع بين أزمات القمح واشتعال أسعار السلع الأساسية وتهديد مياه النيل وتفشي التهاب الكبد وانقطاع التيار الكهربائي وأزمة المرور وحوادث القطارات إلي آخر مسلسل الأزمات التي أصبح من الصعب إحصاءها) ولكن كاتب المقال كذلك يقول أن كل شيء يبدأ ويعود إلى سوء التخطيط.
ماذا يحدث بحق في هذه البلد؟ الكل يتصارع للحديث عن نزاهته وعن مصداقيته وعن "أنا قولت للنظام السابق كذا وكذا لكن لم ينصت لي أحد"... قل لي بربك كم مرة سمعت عن هذه الجملة؟ سمعتها من أحمد شفيق وسمعتها من كمال الجنزوري في لقاءه الشهير عقب التنحي على برنامج العاشرة مساءا وسمعتها من توفيق عكاشة (أحسن واحد يبوس الإيد في مصر) ومن كثيرين سواهم، حتى صرت أعتقد أن الجميع كانوا شرفاء وأنه لا مذنب في الدولة كلها سوى العبد لله.
الدولة بالكامل بحاجة إلى البناء بداية من التعليم حتى وزارة الزراعة مرورا بوزارة الثقافة ووزارة الخارجية... هل تشعر بتعاطف مع أي أحد من المرشحين؟ لا أعتقد... أنا مصري مثلك ولكني لا أعرف بحق من يكون الشيخ (صاحب هذه الحلقة الشهيرة الجديرة بالسخرية وبمدى العلم الذي توصلنا له) الذي يرشح نفسه للرئاسة مدعيا أنه يسير على نهج السلف الصالح متناسيا أن (طالب الولاية لا يولى) هذا إذا أردنا تطبيق الشريعة السليمة بحذافيرها كما يحاول أن يقدم نفسه.
هل نحاول حقا بناء دولة أم نتصارع على الحصول على ما يمكن الحصول عليه من الكعكة التي أجبرنا مبارك على التنازل عنها ليتلقفها كل مدعِ وكل من يحاول الظهور بمظهر العليم ببواطن الأمور مثل الأخ مصطفى بكري وهو الذي كان يدافع عن مبارك حتى اليوم الذي يسبق التنحي مباشرة، دون أن يراجع نفسه لحظة واحدة ليدرك كم أن نفاقه مفضوح وأن شعبا بكامله قد شاهده أثناء هذه الحلقة؟...
عند حصول الدكتور أحمد زويل على جائزة نوبل استضافه مفيد فوزي في برنامجه حديث المدينة الذي كان ذائع الصيت في تلك الفترة وسأله سؤلا ربما كان هو السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا كل يوم... قال له (لماذا لم تتقدم بهذا البحث في مصر؟) قال زويل ببساطة (قدمت البحث 6 مرات وتم رفضه دون قراءته حتى) وكانت الفاجعة حقا عند تسلم أحمد زويل لجائزة نوبل عندما قال المذيع (العالم الأمريكي الجنسية) وكأنها صارت عادة لدينا قتل المواهب وطردهم للخارج من عينة أحمد زويل، أو تركهم يموتوا بالخارج دون أن تدري ما هو دور الخارجية المصرية بالضبط مثلما حدث مع مروة الشربيني في ألمانيا، وكما حدث مع إيهاب الشريف، السفير المصري في العراق .... لو بدأت العد لن تجد صفحات تكفيك لوصف الحالة المتردية التي وصلنا لها....
جرب مرة أن تسمع أجر دينا الراقصة في ليلة واحدة أو أجر أحد لاعبي الكرة أو مدربي الكرة الذين نستأجرهم من الخارج فقط لكرة القدم، واسأل نفسك لماذا لم تجرب الحكومة المصرية الاستعانة بأحد خبراء الزراعة العالميين، مثل نورمان بورلوج Norman Borlaug، الرجل الذي أنقذ حياة بليون شخص على الأقل كما تقول المراجع العالمية، ولو كان الرجل سيحصل على أجر الأخ مانويل جوزيه، فعلى الأقل سيكون له نتائج ملموسة تكفينا شر استيراد القمح كل عام كما فعل مع الهند والمكسيك وبوركينا فاسو وموزمبيق وغانا ونيجيريا ولكن الرجل توفى على كل حال ولم يعد بإمكاننا سوى البكاء على اللبن المسكوب...
من ناحية أخرى جرب أن تسمع عن أجر المدرسين في المدارس، ثم بعد ذلك يأتي وزير التعليم النابغة، سابق عصره وأوانه، الأخ احمد زكي بدر ليقول لك أننا سنحارب الدروس الخصوصية... لست أدري بحق ما الذي من الممكن أن يقال له عندما صرح بذلك وكان أجر المدرس 90 جنيه شهريا (أنا كنت مدرس بالأجر في الفترة دي) ... لو كانت جدتي سمعت تعليقه عن الدروس الخصوصية وقتها لقالت له الرد المناسب بحق (اتوكس).
في قصيدته الموجعة (هوامش على دفتر النكسة) يقول قباني:
نحن نجعل من أقزامنا أبطالا...
ونجعل من أبطالنا أقزاما ...
نمدح كالضفادع.... نهجو كالضفادع ...
أيامنا تدور حول الزار والشطرنج والنعاس...
فهل نحن خير أمة قد أخرجت للناس؟
هذا هو السؤال الذي طرحه قباني منذ ما يزيد عن الأربعين عاما ولعل السؤال ما زال مطروحا حتى اليوم في انتظار الإجابة: هل نحن خير أمة قد أخرجت للناس؟