المريض:

[hannibal]

عرفتُ الأستاذ "شيرين" منذ كنتُ طفلا صغيراً وكان هو شابا في أول الثلاثينات من عمره وكان يعمل مدرساً في مدرسة قريتنا، وكنا طلبة صغار ولكن الصغار كالعادة شياطين لهذا يمكنك أن تتخيل كيف كان يتعذب في كل مرة عندما يمر في الشارع وترى مجموعة من الطلبة تهتف "يا شيرين" .... كان هذا يسبب له ألماً مريعا لا يمكن لطفل مثلي في ذلك الوقت أن يعرفه... لم أكن أرى في الأمر إلا ما يثير السخرية... كيف يكون رجلاً واسمه شيرين؟
تمر الأيام وأتخرج من الجامعة وكلما رأيته في الشارع أكتم ابتسامتي بسبب اسمه... والحقيقة أنه كان حساساً للغاية ويمكنه أن يفهم أنني أسخر منه ولكن يبدو أنه قرر في وقت ما أنني صرتُ رجلا ويمكنه مصادقتي... عندما ذهبتُ معه إلى بيته للمرة الأولى كان في الثالثة والخمسين من عمره... كنتُ في ذلك الوقت ما خريجا جديدا ولم أجد أمامي في ذلك الوقت مجالا أعمل به سوى التدريس، ولهذا كنتُ أحاول اكتساب خبراته ولكن بدا لي أن الرجل بلا خبرات على الإطلاق رغم شعره الأشيب... عندما تدخل بيته تعرف على الفور أن هذا رجل غير متزوج لكنه يحب النظافة... هناك تلك المسحة من النظافة (الذكورية) التي تعني بكل شيء لكنها تنقص تلك اللمسة الأنثوية والتي لا يمكن لرجل تقليدها... وعرفتُ في تلك الفترة أيضا أشياءً كثيرة جدا عن الرجل مثل معاناته الشديدة من مرض الضغط وشغفه بأدوية الفضائيات رغم كونه رجلاً ذو علم وإطلاع.
الشيء الذي عرفته أيضاً أن الرجل يخفي قصة حب في صدره.... ولربما مع مرور الوقت على علاقتي به أصبح الرجل يعتبرني صديقه المفضل أو فلنقل صديقه الوحيد... تعلمت وقتها أن أكف عن سخريتي في سري من اسمه... مرات عديدة كنت أتوقف أمام مكتبته الضخمة وألتقط كتابا من هنا أو هناك أو أجد بعض كراسات كتابة صغيرة الحجم كان يدون بها بعض وخواطره ولربما أشعاره.... ذات ليلة أرجع رأسه للوراء وقال لي وأنا أتصفح إحدى كراسات خواطره "ما هو يا ترى الوجه الذي يجمع في ملامحه بين ميرفت أمين ويسرا ومنى عبد الغني وجينيفر جارنر؟" ابتسمت ولم أرد على عبارته وصمت هو أيضا ولم يكمل عبارته وتناسينا الأمر بعدها عندما سمعنا أذان العشاء وخرجنا للصلاة في المسجد القريب.
ومرت سنوات على تلك العلاقة الغريبة بين جيلين متباعدين كثيرا، ولعلي صرتُ أعتبره صديقاً بحق وكنتُ أشفق عليه من الوحدة ولكني لم أفاتحه أبدا في موضوع زواجه... هذا كلام نعتبره عيباً في القرية، فالرجل الذي بلغ الثلاثين في القرية ولم يتزوج هو رجل عاجز أو يعاني من مرض عضال لهذا لم أتوقف أبداً عند نقطة عدم زواجه تجناً لإحراجه وإن كنتُ أعلم أن الرجل شاعر رقيق حقا....
في صباح يوم جمعة أتصل بي صباحاً وقال أنه يرغب في لقائي بشكل عاجل.... كان يلهث وانفعاله يكاد يتلف أسلاك الهاتف لهذا قلت له أني سوف أمر عليه بعد صلاة الجمعة.... وعندما ذهبتُ إليه كان يبدو منفعلا وسعيدا للغاية... كنت واقفا بجواره وهو يعد الينسون لنشربه سويا وهو لا يكاد يستطيع الحديث... كان قد رأى في إحدى القنوات الفضائية أن شرب الينسون مفيد جدا لهذا لم أفكر في الاعتراض وإن كان مشروبي المفضل هو الشاي وليس سواه... عندما جلس على الكرسي ليلتقط أنفاسه كنت انتظر منه الحديث لكنه صمت طويلاً وفي النهاية قال "ما رأيك في أن أتزوج؟" ... ارتسمت على شفتيّ ابتسامة بسيطة وأنا أرد عليه قائلا "ولم لا؟" رد كأنه لم يكن ينتظر إجابتي "لقد عادت أميرة من دبي وقد توفى زوجها منذ عامين"... هنا أدركتُ أنه كان يتحدث عن الفتاة التي قرأت اسمها في دفاتر أشعاره مراراً... قال بأنه اتصل بها وليس لها اعتراض ولكنها لا تنجب... راح يستطرد في رواية كنت أسمعها منه للمرة الأولى... كان قد تخرج من الجامعة وأحبها ولكنها تزوجت من رجل آخر وسافرت إلى الخليج منذ ذلك الوقت ولهذا لم يتزوج هو من وقتها... اليوم أصبحت هي في الخامسة والخمسين وهو في السابعة والخمسين تقريبا.... كان الموضوع غريباً بالنسبة لي ولكنه لا يخلو من مسحة رومانسية تجعلك ترى أن الحب لا يموت مهما بدا أنه انتهى...
مرت على هذه الجلسة ثلاثة أشهر ..... كنت أجلس معه ليحكي وهو يسعل ويلهث قليلا من فرط الضغط وهو يتناول الينسون.... وتركته في هذه الليلة وهو طفل صغير مفعم بالحب.... وفي صباح اليوم التالي سمعت نبأ وفاته بالجلطة.... كان ينتظر الزواج بعد ثلاثة أيام... الزواج الذي انتظره أكثر من ثلاثين عاماً...
بعدها عرفتُ أن الينسون علاج مفيد في حالات الإمساك ولكن إذا كان المريض مصاب بارتفاع الضغط فهذا يجعل – مع التكرار – المريض عرضة للجلطة بنسبة تتجاوز 90 %.
لا أريد الحديث هنا عن أدوية الفضائيات وكل هذا الهراء الذي تعرضه القنوات هذه الأيام فقد تحدثتُ عنه من قبل، أنا فقط أردتُ أن أحكي هذه القصة... وكفى.

[memodina1]

[نبيل عبدالرحمن]

: Wkiss5:

[sehsss]

[nktis]

VERY GOOD