رد: التحايل "الاخوانى"!!
من انطاع البنا ,,لانطااع الوهابيه
يا قلب لا تحزن !! - 4
5 -
لقد أصبح الإخوان، بعد سنوات قليلة، يشكلون نوعا من أنواع الطبقة المتميزة في الدولة الجديدة، فقد كانوا يعتبرون أنفسهم، أوصياء على أمن الدولة وعلى أخلاقها، وقد ولَّدت قوتهم السياسية والعسكرية المتزايدة بين صفوفهم شكلا من أشكال الغطرسة والتفوق الطبقي، الذي بدأ ينافس بل يتفوق أحيانا، طبقة الجماعات الأخرى مثل العلماء وأعيان المدن والقرى.
إضافةً إلى ما كان يتصف به الإخوان من التشدد، والحَرْفية في تطبيق المبادئ الوهابية، وعدم وجود الحلّ الوسط في ذهنيتهم، الأمر الذي تجلى في تنفيذ الأحكام القاسية على كل من يقصّر أو يتهاون في تطبيق السلوك الديني القويم، كالتأخير في الحضور للصلاة، أو ممارسة بعض السلوكيات المحرّمة في نظر الوهابية، كالدخان والغناء وحلق اللحية وإسبال الثوب، أو عدم التزام المرأة بالحشمة ونحو ذلك، حيث كان يتم التعامل مع هذه (الانحرافات) بالضرب أو الجلد أو السجن.
وقد تصل العقوبة إلى القتل أحيانًا، إذا ظهر من المخالف ما يعتقد الإخوان بأنه ردة وكفر. إضافة إلى اعتقادهم بأنهم مسلمون، فثروة الكفّار المحيطين بهم وغنائمهم، حلال لهم.
ويبدو أن تشدد الإخوان، وتسلطهم على السكان، توسع وأصبح ظاهرة ملفتة، إلى الدرجة التي بدأت معها الحكومة البريطانية، والمتواجدة في أطراف المنطقة، ترصد ظاهرة ما تسميه في تقاريرها بــ (الهداية القسرية)، التي كان يمارسها الإخوان، ضد عامة المسلمين. فعلى سبيل المثال، رفع المفوّض البريطاني في الكويت هارولد ديكسون مذكرة يصف فيها الموقف على النحو التالي: “كانت الهداية القسرية إلى عهد قريب جدا أداة من أدوات الإيمان بين الإخوان، ومن المؤكد أن أداوتهم هي التي أحدثت تبرما بين أهل الحجاز والبلاد المجاورة”.
وكتب النقيب جارلند بأن هناك اعترضا شديدا “على الأساليب الوحشية التي يلجأ الإخوان إليها، لتنفيذ الهداية القسرية ومعاقبة المخطئين، أكثر من الاعتراض على مبادئ المذهب نفسه، وليس هناك من شك في أن البدو أنفسهم [الذين لم ينضموا إلى الإخوان] كان يتم ترويعهم بطريقة منظمة من خلال عملية الهداية القسرية، وأن ممارسة الهداية القسرية ومعاقبة المخطئين كانا يصلان إلى حدّ الموت”.
“لقد أصبح واضحا لعبد العزيز، أن الإخوان خرجوا عن السيطرة، وأصبحوا متغطرسين”، ويستخدمون السلطة في فرض الشريعة بالقوة دون أخذ الإذن منه، خصوصا بعد إنجازاتهم العسكرية المبهرة، في إسقاط إمارة آل الشريف بالحجاز، وإمارة آل الرشيد بحائل، وإخماد بعض التمردات والانشقاقات التي كانت تحصل في الجنوب الغربي من الجزيرة، فكانوا دائما يعزون هذه الانتصارات لقوتهم وتضحياتهم وشدة بسالتهم في القتال.
وفي مثل هذا الوضع، من الطبيعي أن تذهب الأمور، إلى الاختلاف والتوتر والنزاع بين تنظيم الإخوان والسلطات المركزية في الإمارة، وقد بدأ الإخوان بالفعل يتذمرون من الملك شخصيا، وينكرون عليه سياساته الحديثة التي كان الواقع الجديد يفرضها عليه، كمسألة الحدود الجغرافية السياسية للدولة، حيث كان الملك حريصا على إنجازها من خلال اتصالاته وتفاهماته مع الحكومة البريطانية، التي كانت مهيمنة على المناطق المجاورة حينها… ولكن الإخوان يعتقدون بأن الدين الحق لا ينبغي أن يُحَدّ بجغرافيا معينة تسمى الدولة، بل سلطة الدين القويم والعقيدة الصحيحة يجب أن تمتد وتتسع جغرافيا بحسب القدرة على القتال، ولهذا استمروا في الجهاد ضد البدو والمناطق المجاورة في جنوب العراق والكويت والأردن، يفرضون عليهم الجزية، ويغنمون منهم، بدون أخذ الأذن من الملك.
ويضاف إلى ذلك، إنكارهم استعمال الحكومة لبعض المخترعات الحديثة، كالتلغراف، والتليفون، والسيارة، والدراجة، والساعة ونحو ذلك، وبعضهم كان يعتقد بأنها قد تكون نوعا من السحر المحرّم .
إضافة إلى انخراطهم في تطبيق الشريعة على الناس في بعض المناطق، بصرامة وقسوة، وإنْ ترتب عليها الاعتداء على السكان، كما حكموا بالردة والكفر على كثير من رعايا الملك ممن دخلوا تحت دولته، علما بأنهم كانوا ينطلقون في ذلك من كتابات وفتاوى علماء الوهابية، قديما وحديثا، كما سبق معنا.
- 6 -
عندئذ اضطر كبار علماء الوهابية أن يتدخلوا، وقد أعلنوا سلفا تحالفهم وتضامنهم المطلق مع الملك ومباركتهم لدولته الحديثة، والتي رأوها امتدادا طبيعيا لحالة التعاقد بين (الأمير والشيخ). لقد كان تدخلهم حازما وسريعا، حتى لا تنفلت الأمور أكثر من اللازم، حيث وجدوا أنفسهم لأول مرة أمام تمرَّد ديني من داخل قلب مجتمع الدعوة، من الأتباع الذين كانوا قد تتلمذوا على تعاليمهم وقاتلوا معهم ضد (الكفار والمشركين) وساهموا في إقامة دولة التوحيد ...أنه إذن تمرد التلاميذ على أساتذتهم ، فكان لا بدَّ من فرض السلطة المركزية في إدارة المعنى الديني وتفسير التعاليم الوهابية، حتى لا تكون متاحة لكل من هبّ ودب، فالعلماء الكبار (من ذرية محمد بن عبد الوهاب أو من أتباعه المشهورين والمعترف بهم) هم المالكون الحقيقيون لإصدار التعاليم والفتاوى، ولا سبيل للنجاة في الدارين إلا باتباع تعاليمهم وتنفيذ أوامرهم؛ “فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه، فقد زهد في ميراث سيّد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجاهلين الخابطين، الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة”؛ إذ “ليس كل من انتسب إلى العلم، وتزيّا بزيّه، يُسأل ويستفتى وتأمنونه على دينكم”.
كما أنكروا عليهم، تطاولهم في مخاطباتهم للملك عبد العزيز، بل وعزمهم على خلعه والخروج عليه، قائلين: “ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، وممن فعله أو تسبب فيه، أو أعان عليه، لأنا ما رأينا من الإمام عبد العزيز ما يوجب خروجكم عليه، ونزع اليد من طاعته، وإذا صدر منه شيء من المحرمات، التي لا تسوغها الشريعة، فحسب طالب الحق الدعاء له بالهداية، وبذل النصيحة على الوجه المشروع”.
كما قد لاحظ كبار العلماء، تطاول الإخوان عليهم شخصيا، والاستهزاء بهم، والتشكيك في نزاهتهم واتهامهم بالمداهنة، فعاجلوهم برد صارم في بيانات أصدروها، جاء فيها:
“ومما ينبغي التنبيه عليه: ما وقع من كثير من الجهلة، من اتهام أهل العلم والدين، بالمداهنة والتقصير، وترك القيام بما أوجب الله عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق، والسكوت عن بيانه، ولم يدر هؤلاء الجهلة، أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سمّ قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين”، ثم إنكم “كنتم أولاً في جاهلية عريضة، وحالة عن الحق بعيدة، ورؤساؤكم أكثرهم طواغيت كبار، وعوامكم جفاة أشرار، لا تعرفون حقائق دين الإسلام، ولا تعملون من الحق إلا بما تهوى به نفوسكم، مع ما كان بينكم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وتعدي حدود الله، وغير ذلك من المحرمات وعظيم المنكرات. ثم هداكم الله لمعرفة دينه، والعمل بتوحيده، وسلوك مسلك أهل الإسلام والتوحيد، وانتشرت بينكم كتب السنن والآثار، ومصنفات علماء الإسلام، ثم أنتم الآن انتقلت بكم الأحوال، إلى أنكم تحاولون الخروج على الإمام، ومنابذة أهل الإسلام ومفارقة جماعتهم”.
إلى آخر ما أصدره علماء الوهابية، وتحديدا ما بين سنتيْ 1919 و 1920، من الفتاوى الجماعية التي بسطوا فيها الخطاب الوهابي الجديد الذي يتناسب مع الاشتراطات الجديدة لطبيعة الدولة السعودية الحديثة.
ولكن (الإخوان) لم يرضخوا ويُذعنوا لهذه الفتاوى الجديدة، التي رأوا فيها انقلابا وانتكاسة لما كانت عليه الوهابية الحقيقية من وجهة نظرهم، وأخذوا يجادلون العلماء بنفس الكتابات والتعاليم التي أصدرها سابقا أئمة الدعوة في العهدين القديمين: الأول والثاني للإمارة السعودية.
حينها اضطر العلماء، إلى تكفير حركة (الإخوان) وإخراجهم من الإسلام بالكلية، بل وأفتوا بوجوب قتالهم وجهادهم، فأصدروا الفتوى التالية: “وأما قول السائل، إنهم (أي الإخوان)، يرون أن جميع المسلمين وولي أمرهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام… أما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، وادّعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم”. (انظر الدرر السنية:9/210).
ويبدو أن الإخوان كانوا يشعرون بمرارة (الانقلاب) من علمائهم الكبار؛ ففي حين كان العلماء وأتباعهم يصدّعون الأسماع، وفقا لمبدأ الولاء والبراء، بتحريم كل أنواع الاتصال السلمي بالمشركين، بل وتكفير كل من رضيَ سياسيا بالتحالف والانضمام للدولة العثمانية، نرى الآن الملك ومستشاريه وبمباركة علماء الوهابية الجديدة، يقيمون علاقات دبلوماسية مع هذه القوى الأجنبية الكافرة، هكذا يرى الإخوان كيف تسير الأمور، وفق رؤيتهم للعالم التي غذَّتها التعاليم الوهابية القديمة، أو كما فهموه من تلك التعاليم.
وفي حين كان العلماء يصدّعون الأسماع بالبراءة والمعاداة لكل الطوائف والمذاهب التي تمارس الكفر والبدع أو تتصالح معها، نجد كبار علماء الوهابية الآن يجيزون للملك التسامح معهم واستيعابهم في الدولة، وتركهم وعدم إجبارهم، والاكتفاء بمجرد دعوتهم بالحكمة والرفق والتدرج، ولكن الإخوان يرفضون هذه (المداهنة) و(الميوعة) و(الليونة) في الحق بحسب تصورهم الذي تم تغذيتهم به أثناء تكوّنهم الفكري في الهجَر الوهابية. وحين حاول الإخوان أن يفرضوا العقيدة الصحيحة والسلوك القويم على الناس بالقوة، في بعض المناطق، خاصة في الحجاز، استنكر علماء الوهابية أفعالهم ودعوهم إلى اعتماد وسائل أكثر لينا وحكمة، بعد أخذ الإذن من السلطات.
ومهما كان أمر هذا السجال والصراع الديني، وكيف انتهى سياسيا وعسكريا، إلّا أننا نشهد فيه أول تمرد وانشقاق داخلي للسلفية الوهابية بصورة ظاهرة وجلية.
لقد صرنا إذن أمام وهابيتين: وهابية العهد القديم، ووهابية العهد الجديد: وهابية ملتزمة بحرفية نصوص الآباء المؤسسين، ووهابية تتعاطى نصوصها بنظرة أكثر واقعية وذرائعية.
هذا الانقسام والانشطار لم ينتهِ بمجرد الحسم العسكري للجماعات المتمردة في معركة "سبلة" الشهيرة، بل بقيت أفكار الوهابية القديمة تنتقل جيلًا بعد جيل، إلى يومنا هذا، فالجماعات الجهادية -على سبيل المثال- والتي تتبنى نهج العنف والتكفير والقتال، تستمد مقولاتها العقائدية، من تعاليم (وهابية العهد القديم)، بل رأينا معظم منظّري القاعدة ينطلقون في أطروحاتهم وتأصيلاتهم من كتابات ذلك العهد. وحين يقوم أتباع الوهابية (اليوم) أو ما يعرف بالسلفية الحركية، بمواجهة تلك الجماعات، أو الوهابيات المتطرفة، والانخراط في صراع معها، فهم لا يفعلون شيئا مؤثرا سوى أنهم يعيدون نفس تاريخ السجال الفقهي والعقائدي الذي نشب بين الوهابية المتصالحة والمتحالفة مع الدولة، والوهابية الجامدة والمتمردة والمقاتلة!
إنه (صراع التأويلات)، الصراع على تأويل نصوص العهد القديم للوهابية، وهو صراع مستمر، بين وهابيتين: وهابية تؤمن بالواقعية والبراجماتية، ووهابية تؤمن بالوفاء لتعاليم العهد القديم، وكلا الوهابيتين تدعي بأنها الممثل الشرعي للدين الحق.
ولكن مع إزدياد ضعف فرقة الإخوان بسبب الحروب الكثيرة التي خاضوها وبعد منع عطايا الملك عنهم ، فقد وقع الإخوان أنفسهم في تناقض مع أفكارهم ، ففي حين كان الإخوان يكفِّرون الدولة، بسبب اتصالها بالحكومة البريطانية، وعقد الاتفاقات معها، إتباعا منهم لتعاليم وهابية (العهد القديم) وتطبيقا لنصوصها القديمة في تكفير كلّ من تحالف مع العساكر التركية؛ نجد أن هؤلاء الإخوان أنفسهم، أجازوا لزعمائهم فيما بعد، التواصل مع الحكومة البريطانية، ومحاولة عقد الاتفاقات معها، واللجوء إليها، والاستجارة بها، عندما ضاقت عليهم الأرض، جراء الخسائر والهزائم المتتالية التي تعرضوا لها من عساكر الملك عبد العزيز . ولكي لا يبدون متناقضين أمام أتباعهم، كانوا يبررون لهم هذا السلوك السياسي، بأنهم مقتدون بالصحابة، حين هاجروا إلى الحبشة النصرانية، وتركوا عشيرتهم الكافرة.
الأمر الذي دفع كبار علماء وهابية (العهد الجديد) إلى إصدار الفتوى بتكفير أولئك (الإخوان) بسبب اتصالهم بالحكومة البريطانية (الكافرة) ولجوئهم إليها؛ فــ “هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش، ومن تبعهم، لا شكَّ في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم”.
والعجيب أن تصدر هذه الفتوى، في الوقت الذي كان أولئك العلماء يجيزون للملك التواصل مع ذات الحكومة البريطانية (الكافرة)، “لأنه إمام المسلمين، والناظر إلى مصالحهم، ولابدّ له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب”.
إن كلا الوهابيتين وجهان لنمط واحد؛ نمط يدّعي بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة الدينية بصفة مطلقة، وأنه الممثل الشرعي والوحيد للعقيدة الصحيحة، وأنه المرجع الوحيد في فهم السلوك القويم المؤدي للنجاة في الآخرة، وبالتالي يحق له إنتاج المعنى الديني وإدارته وتطبيقه وفرضه في الواقع دون الآخرين.
وما فكر داعش الآن سوى إعادة تدوير لأفكار ومعتقدات و رؤى فرقة الوهابية في صورتها الأولى.. أو بالأدق .. إعادة بعث وإحياء لــ "وهابية العهد القديم" .
عبد الله المالكي
باحث وكاتب سعودي
__________________
|