عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 09-10-2012, 09:30 AM
الصورة الرمزية hannibal
hannibal hannibal غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Jan 2011
المشاركات: 95
hannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud ofhannibal has much to be proud of
افتراضي من أوسلر إلى مولانا أبو الحسن:

من أوسلر إلى مولانا أبو الحسن:
=====================
التوقيت: الساعة الثالثة صباحاً
المكان: بيتنا
أنا أسكن في قرية من قرى الريف المصري التي لا يعرف أحد عنها أي شيء سوى سكانها... قرية من القرى التي كان محمود درويش سيصفها حتما بـ "قرية عزلاء منسية" من إحدى قرى محافظة القليوبية. ولك أن تتصور أن قرية كهذه تصبح قرية أشباح بعد الساعة التاسعة والنصف من مساء كل ليلة وذلك بسبب انتشار البلطجة وغياب رهيب للأمن لم يتغير منذ بداية الثورة حتى الآن... بالمناسبة هي إحدى قرى مركز شبين القناطر تحديداً.
في حوالي الساعة الثالثة صباحاً سمعتُ الدقات الهستيرية على الباب ممزوجة بنفير سيارة وموتوسيكل وتوكتوك وبعض الصراخ الذي لابد منه، فعرفت أن الأمر يتعلق بمريض ما في حالة حرجة... خرجتُ وخرج أبي الذي استيقظ من نومه فزعاً، فرأينا تلك المجموعة من الأفراد يتقدمهم رجل حفر الزمن ندوبه على وجهه الذي يمكنك أن ترى فيه كل عذابات مصر منذ أيام الإقطاع حتى يومنا هذا... كان يتحدث بكلمات غير مفهومة مثل (بنتي ... أبوس إيدك... دكتور... عيادة)... هكذا فهمت أن ابنته مريضة وهو يخشى عليها بشدة ويبدو الوضع غير مطمئن بالمرة... المشكلة أن أخي الطبيب لم يكن موجوداً في هذه الليلة بالذات فهو يشارك في ما يطلقون عليه لفظ (القافلة الطبية) في محافظة أخرى...
في الخارج كانت هناك تلك المجموعة المعتادة التي تراها دائماً في هذه الحالات... تلك المجموعة المكونة من حوالي أربعة أفراد يلفون حول وجوههم تلك (التلفيعة) العملاقة وفي أيديهم سجائر (الكليوباترا) وعلى وجوههم ذلك السمت المميز لفلاحي مصر والشعور المتضخم بأنهم "رجالة"... جذبني أحدهم من ذراعي في رفق وأشار لي بأن يحدثني على انفراد وقال لي هذه الحكاية:
"المريضة فتاة في السابعة والعشرين من عمرها وهي أم لبنتين وولد وقد أصابتها حالة إغماء مفاجئة في هذه الليلة، وذهبوا بها إلى مستشفى شبين (المستشفى الشاملة) الحكومية إياها ولكن لم يكن هناك أحد سوى طبيب الامتياز الشاب الذي أخبرهم أن المستشفى غير مهيئة لاستقبال مثل هذه الحالات، ونصحهم الطبيب بالبحث عن طبيب في عيادة خاصة... لم يجدوا أن عيادة تعمل ولم يجدوا طبيب أصلاً حتى وصلوا إلى بيتنا.... ولم يعد لديهم ما يفعلونه سوى المكوث في انتظار الدكتور أو الصباح ليتمكنوا من الذهاب بالمريضة إلى القاهرة لأن الطريق في ظل الغياب الأمني لا يمكن السير عليه في هذا التوقيت"...
كان والد المريضة العجوز جالساً على السلم غارقاً في دموعه وهو يردد كلمات غير مفهومة منذ أتى... لم يكن بيدي ما أفعله سوى الاتصال بأخي محاولاً معرفة إن كان سيأتي في هذه الليلة أم لا لكن الهاتف لم يكن متاحاً... جلستُ بجانب الرجل محاولاً التخفيف عنه وأحاول طمأنته لكنه راح يردد (مستشفيات إيه دي اللي تعمل إضراب يا ناس... ده احنا مسلمين... والله العظيم مسلمين)....
كان هذا عندما دوت الصرخة من الخارج بصوت الأم الملتاع فخرجنا جميعاً لنجد الوالدة تولول وهي تحتضن ابنتها الهامدة وتردد (البنت قطعت النفس... البنت قطعت النفس...) هنا سقط الرجل على الأرض ولم يقل كلمة واحدة... بينما التف الرجال المرافقين له مع بعضهم وهم يتحدثون في خفوت، ثم جاء لي أحدهم وقال لي بأنه يأسفون على الإزعاج في هذا الوقت المتأخر... ثم انحنى على والد الفتاة الجالس على الأرض وقال وهو يحيط كتفيه بيديه ويقول له (قدر الله وما شاء فعل يا حاج...) هنا رفع الرجل عينيه إلىّ وقال بصوت هادئ تماماً (ماتت يا بني... حسبي الله ونعم الوكيل)... حاولت أن أقول بأن الأمر يخرج عن إرادتي وبأنه لا يد لي ولكن الموقف ألجم لساني تماماً... ومع صراخ الأم وهدير محرك السيارة والموتوسيكل شعرت بأن الأمر أكبر من كل شيء، ولا يجوز الكلام أصلاً... الموقف أكبر من كل كلام...
في الصباح تمكنت من الاتصال بأخي وكان قرية اسمها (تل بني تميم) وقال لي بأن الهاتف كان غير متاح بسبب انقطاع الكهرباء الذي انقطعت معه تغطية الشبكة... وعندما أتى حكيتُ له الموقف كما تم فقال لي:
"الطبيب الشاب في المستشفى الحكومي راتبه الرسمي 300 جنيه، وما يجنيه الطبيب الحديث التخرج من خلال عمله الحكومي لن يتعدى بأي شكل مبلغ 1300 جنيه... وإذا ما نظرت إلى المستشفيات الحكومية نفسها قد يصيبك الهلع... بوجه عام، يوجد عجز متفاقم في قدرة استيعاب المستشفيات التي انخفضت من 118.5 ألف سرير عام 2000 إلى 99.3 ألف عام 2010 وما زالت تنخفض، وهذا العجز يرجع إلى تضاؤل الإنفاق على الصحة واهتمام وزارات الصحة المصرية منذ عهد الوزير إسماعيل سلام حتى حاتم الجبلي بمستشفيات العلاج الاقتصادي المرتفعة التكاليف والتابعة لهيئة المؤسسة العلاجية أو الأمانة العامة للمراكز الطبية المتخصصة... كما أن إضراب الأطباء لم يكن إضراباً مطلقاً أبداً بل في كل قسم من المستشفيات كان هناك طبيب واحد يعمل من أجل الحالات الحرجة، لكن المصيبة الدائمة في تجهيز المستشفى نفسه...
هناك عجز مرعب آخر في أقسام حضانات الأطفال والرعاية المركزة رغم أن هذين القسمين بالذات تتوقف عليهما الحياة بشكل حرفي... هناك إحصائية تقول بأن عدد المواليد الذين كانوا بحاجة إلى الحضانات في عام 2010 كان 238 ألف بينما كانت كل حضانات الوزارة تستوعب 111 ألف فقط، أي أن هناك حوالي 100 ألف طفل بحاجة إلى حضانات ولم يجدوها – إذا كانوا وجدوها أصلاً – في المستشفيات الاستثمارية أو الجمعيات الشرعية الأهلية، ولكن البديل الرهيب الآخر هو الموت بكل بساطة.
وعندما نقارن مصر بدولة أخرى كالهند، فستجد أنه في مصر لا يوجد سوى 7000 سرير للعناية المركزة أي هناك ما يقل عن سرير واحد لكل 10 آلاف مواطن مصري، بينما هذه النسبة في دولة الهند – النامية – هي سرير لكل 5 أسر.
ما هو السبب في هذه الفجوة الرهيبة بين سطوة المرض والقدرة العلاجية؟ يمكنك تناول الأمر من زوايا متعددة فالموضوع شائك بحق... ويليام أوسلر كان يقول (من حق الطبيب أن يكون ميسور الحال لكي لا ينصب اهتمامه في جمع المال)... إذن يمكنك أن تعتبر أن تحسين أحوال الأطباء من اهم جوانب الموضوع.
عندما حدثني الرجل المصاحب لوالد الفتاة التي توفت امامنا، قال لي أن طبيب الامتياز في المستشفى أخبرهم أن الفتاة بحاجة إلى إجراء أشعة مقطعية قبل أي شيء، ولكن جهاز الأشعة المقطعية في المستشفى متعطل منذ مدة تبلغ ...... استعد لهذه الفاجعة... جهاز الأشعة المقطعية متعطل منذ 7 سنوات.
إذن الجانب الآخر هو تجهيز المستشفيات بالشكل اللائق والكافي لاستيعاب أعداد المرضى مع أخذ النسبة والتناسب في الحسبان، فما كان يصلح لعام 2000 لعدد سكان يبلغ حوالي 80 مليون نسمة في بلد كبير مثل مصر، لن يكفي بالتأكيد لعدد سكان لا يبتعد كثيراً عن 95 مليون نسمة هذا العام.
من يتحمل ذنب هذه الفتاة التي توفت؟ طبعاً الأعمار بيد الله ولكن هناك سبب بالتأكيد، فهل توفت هذه الفتاة بسبب إضراب الأطباء، أم عدم كفاءة طبيب المستشفى حديث التخرج أم تدهور أوضاع الدولة أم عدم تجهيز المستشفيات بالشكل الكافي؟ كل هذه الأسباب معاً هي السبب في وفاتها.... ولعل السادة الجالسون يتحدثون عن إنجازات المائة يوم لمرسي يكفون قليلاً عن اعتبار كل خطوة وكل كلمة قالها مرسي انجازاً تاريخياً، ويكف الطرف الآخر عن اعتبار مرسي فاشلاً بكل المقاييس ويلتفتوا قليلاً إلى هذا البلد الي دخل بالفعل في مرحلة الاحتضار... لأنها بلد مسلمين كما قال الرجل... والله العظيم بلد مسلمين.
__________________

أي كلام
رد مع اقتباس