والذين يَرون عدم الخروج على الأنظمة الحاكمة اليوم يستدلون خطأ ببعض الأحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلاً هناك حديث يقول: ( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية ) .
هذا الحديث يطرح أمامنا عدة أسئلة:
1) من هو الأمير المقصود في هذا الحديث؟
2) ما هي نوعية الكره؟
3) ما هي حدود الصبر؟
4) وأي جماعة تلك المقصودة في الحديث؟
5) أهي الجماعة الكبرى أم الصغرى؟
من البديهي أن الأمير الذي ذكره الحديث هو الأمير المسلم، فهذا هو المعنى الذي يتماشى مع طبيعة الشرع، فمن ثم يجب على المسلم أن يطيعه لأنه - أي الأمير - متقيّد بالشرع خاضع لأمره، لكن قد يرى المسلم منه ما يكره؛ أي بعض السلوكيات الخاطئة من قبل الأمير كحال الأمراء الأمويين والعباسيين... لكن ليس هذا مبرراً شرعياً للخروج عليه، ومن هنا فإن الصبر المَعنيّ بالحديث هو الوسيلة لمحاصرة هذا الكره الذي ذكرنا مواصفاته... الكره الذي لا تتجاوز حدوده الفرد إلى حدود الجماعة. وعلى ضوء هذا الفهم يتبين لنا خطأ الذين يُحاولون تطبيق هذا الحديث اليوم على الأنظمة التي تجثم فوق صدور المسلمين.
والذين يَرون عدم الخروج على الأنظمة الحاكمة اليوم يستدلّون بحديث لست مُطمئناً لصحته يقول: ( شرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا: يا رسول الله أفلا نُنابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ).
وحتى لو كان الحديث صحيحاً فلا نفهمه بالصورة التي يُحاولون من خلالها عرضه... يقولون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أقاموا الصلاة ) ويعتقدون أن المقصود هو أنه مادام الحاكم يُصلي ولا يمنع الناس من الصلاة فلا يجوز الخروج عليه، وهذا فهمٌ قاصرٌ وغير صحيح ولا يلتقي مع أقوال جمهور العلماء وبالأخص ابن تيمية في أقواله التي دوّناها في الصفحات السابقة؛ فالتتار كانوا يُقيمون الصلاة بل منهم من كان فقيهاً مُتعبداً ومع ذلك جعل قِتالهم واجباً لإيمانهم بالياسق .
والمقصود بالمنابَذة - التي ورد ذكرها في الحديث - هو نقض البيعة التي أعطاها الناس لهؤلاء الحكام والخروج عليهم. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وإمَّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء} أي أعلمهم بنقض العهد الذي بينك وبينهم.
وفي الحديث إشارة واضحة إلى أن هناك بيعة أُعطيت لهؤلاء الأمراء كي يقوموا بأمر المسلمين حسب كتاب الله وسنة رسوله، فالبيعة - ويجب أن تكون عن رضا واختيار لا عن إكراه وإجبار - هي الوسيلة الشرعية في الإسلام لتولي السلطة السياسية، وما دامت هناك بيعة بين الحاكم والمحكوم فمعنى ذلك أن الحاكم يجب أن يُطاع؛ لأن البيعة إلزام للحاكم بالتقيّد بشرع الله وإلزام للمحكوم بطاعة هذا الحاكم في حدود هذا الشرع. ومن هنا فإن الأمراء الذين طلب الصحابة منابذتهم والخروج عليهم كانوا يحكمون بما أنزل الله لكن سلوكهم الشخصي لا يُرضي المحكومين وأفعالهم تُبيح لعنهم من قِبل الناس، ومن ثَمَّ هم يلعنون الناس كما يلعنونهم.
وعلى ضوء هذا الفهم يتبيّن لنا أن المقصود بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما أقاموا الصلاة) ليس هو مجرّد إقامة الصلاة في حد ذاتها، وإنما لأن الواجب على الأمير المسلم أن يُقيم في الناس الصلاة ويخطب فيهم الجمعة، هذا العمل صورة من صور الممارسة الشرعية لمسؤولياته في الإسلام ومادام يقوم بهذا العمل... وهذا يعني أيضاً تقيّده وإلتزامه بشرع الله... لأجل ذلك لا تجوز منابذته، وليس المقصود - كما يفهم البعض - أنه مادام الحاكم يُصلي ولا يمنع الناس من الصلاة فلا يجوز الخروج عليه وإن لم يكن يلتزم شرع الله، فهذا الفهم يُخالف مخالفة صريحة ما كان عليه الصحابة وأجمعوا عليه وكذلك ما أجمع عليه الفقهاء.
وهل يُعقل أن يكون المقصود بالحديث هو الحاكم الذي يُقيم الصلاة فقط دون بقيّة أحكام الشرع؟! إن محاولة تطبيق هذا الحديث على حكّام اليوم هي محاولة لدعم الباطل على حساب الإسلام، فحكّام اليوم وأنظمة هذا العالم المترامي المسمّى مجازاً بالإسلامي لم يصلوا إلى الحكم بالطريق الشرعي (البيعة)، بل فرضوا أنفسهم على المسلمين بقوة الحديد والمال ودعم القوى الكافرة المتربّصة بالإسلام ودُعاته الحقيقيين، ومن هنا ينقطع الطريق أمام دعاة الضلالة الذين يحاولون ترقيع الجاهلية بأحكام الإسلام وإلباس هذه الأنظمة الكافرة ثوب الإمامة العادلة!!.
لقد استحلت هذه الأنظمة ما حرّم الله في كلّ قرار تصدره وكلّ خطوة تخطوها، فهي - كما نلاحظ - لا تقوم على بيعة وقد عطلّت حق الأمة في الشورى ومراقبة الحاكم وتسديده وترشيده وعزله، وأخذت تتوسع في إباحة المحظورات الشرعية بل تيسّر السبل والوسائل كي تنتشر هذه المحظورات وتسود الواقع، والاستحلال كفر بإجماع الأمة لا يُخالف في ذلك أحد وبالإضافة إلى ذلك استباحت دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فهل هناك براهين على الكفر الصريح أكثر من ذلك.
إن حكّام اليوم كفروا بما أنزل الله وأعرضوا عنه مهما لبسوا من أزياء الإسلام، وهم يُوالون أعداء الله وينصرونهم على جماهير الإسلام والمسلمين، وينشرون الفساد في الأرض، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط والعدل بين الناس... والجماهير - لَهْفِي عليها - استسلمت لهذه الأوضاع المنحرفة ودانت لها حتى صبغت تصوراتها وسلوكها وأخلاقها بصبغة الكفر، فأصبحت تُوالي الحكام وتهتف لهم وتتقرب منهم وتنصرهم وتدعمهم على حساب الإسلام، وهي أولاً وآخراً لا تدري ماذا يُراد بها؟ وأصبحت لا تحمل من الإسلام سوى اسمه.
فهل هناك كفرٌ أكثر بواحاً من هذا؟.
الدليل العقلي
إن المتأمل في واقع هذه الأنظمة الحاكمة اليوم في أرض الإسلام تتكشف له حقيقة هامّة وهي: أن هذه الأنظمة لم تتسلّم زمام الأمور في بلاد المسلمين اعتباطاً، هذه الأنظمة هي امتداد طبيعي للاستعمار الغربي الكافر، وإذا كان من الواجب الشرعي علينا أن نُقاتل القوى الاستعمارية الغربية الكافرة حتى يكون الدين كلّه لله، فمن البديهي أن نُقاتل هذه الأنظمة التي تُعتبر الجبهة الأمامية لهذه القوى الغربية الاستعمارية الكافرة. ومن المؤسف أن تتخوّف بعض الأوساط الإسلامية من الأساليب ((الثورية)) في التغيير.
وإذا كانت ((الثورة)) - كمصطلح - هي العِلم الذي يُوضع في الممارسة والتطبيق من أجل تغيير المجتمع تغييراً جذرياً شاملاً - كالتغيير الذي أسسه وكرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم - والانتقال بالمجتمع من مرحلة معيّنة إلى أخرى متقدمة على صعيد تحقيق العدالة الإجتماعية؛ إذا كانت ((الثورة)) - كمصطلح - تعني ذلك وهي كما نعلم تعنيه، فليست الثورة إذاً غريبة علينا كمسلمين... ولسنا كمسلمين - أيضاً - غرباء على الثورة. وإذا كانت الثورة تقف مع مجموع الأمة، وإذا كان مجموع الأمة يقف مع الثورة، فإنها لا شك ثورة حق؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أكّد أن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
وإذا كانت الثورة تنحاز انحيازاً تاماً لمصالح الأمة، ومطالبها، وللمستضعفين فيها، والجائعين المعذَّبين، فإنها لا شك ثورة حق، لأن الهدف الأساسي من رسالات السماء إلى الأرض كان وما زال: تحقيق العدل والقسط وتحطيم الظلم والظالمين، يقول جلّ القائل: {لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد : 25).
ولم تكن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فراراً وهروباً، بل كانت فعلاً ايجابياً عن طريق الثورة على المجتمع الظالم والقرية الظالمة، والتحضير لها والتحريض عليها. والذين لا يهجرون المجتمع الظالم لتغييره، والذين يأتلفون مع الظلمة هم ظالمون لأنفسهم... وهو أشد أنواع الظلم: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتُهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}.
ذلك أن كونهم مستضعفين في الأرض لا يُعفيهم من مسؤولية التغيير للظلم، لأن منطقهم الاستسلامي هذا يُعاكس إرادة الله سبحانه، تلك الإرادة التي صاغها القرآن الكريم في آية واحدة: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهمُ الوارثين} (القصص : 5). فإرادة الله أن تكون القيادة والإمامة للمستضعفين في الأرض من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تكون لهم وراثة ما في حوزة أوطانهم من ثروات وعلوم وإمكانيات. وأن الدعوة إلى الله وتوحيده ليست ولم تكن في أي يوم من أيامها منفصلة عن قضايا الأمة وأوضاعها وهمومها وتطلعاتها إلى العدل والكرامة والحرية والارتفاع... لقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يدعون أممهم إلى العقيدة (التوحيد) لكن ينبغي التأكيد هنا أنهم كانوا يربطون هذه الدعوة بالمسائل والقضايا التي تهم أممهم.
منقووووووول