رد: مخطط تصفيه الثوره ,,
عدوّ الشعب
إبراهيم عيسى
سأتحدث عن مسرحية!
لكن لو عندكم وقت ستعرفون أنها مسرحية حياتنا التى لا تنتهى فصولها أبدًا.
كان لى صديق من كارهى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عندما يمر أمامه التعبير الذى أطلقه جمال عبد الناصر «الشعب هو المعلم»، وهى الجملة ذات الرنين الرائع (غالبا صاغها كاتبنا الكبير هيكل) كان يعلق متهكما بأن الشعب المعلم لازم يتعلم الأول. صحيح فالشعب الجاهل أو المتعصب أو الطائفى إيه اللى حيعلمه إن شاء الله؟ لكن «الشعب هو المعلم» هى نفسها ترديد وصدى لجملة سعد زغلول «الأمة مصدر السلطات»، والاحتكام إلى الناس وإلى القاعدة العريضة وإلى الجماهير، ومن ثم إلى الأغلبية، هو عين الديمقراطية ورأسها، لكن هل تضمن الديمقراطية دائما أن يصل الأصلح إلى الحكم؟
الإجابة بالقطع لا، فقد صعد المجنون المهرتل الأعظم هتلر إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة شفافة، وكذلك وصل موسولينى الديكتاتور السافل إلى الحكم عن طريق اختيار الأغلبية، وجلس بوش الابن الجاهل الأمّى على مقعد رئاسة الولايات المتحدة بانتخابات ربما شاب الفترةَ الأولى لها تزوير أو تلاعب فى تصعيده للرئاسة، لكن الفترة الثانية فاز فيها بمنتهى النزاهة!
لكن أى طريقة أخرى -غير الديمقراطية- لاختيار الحاكم لا تضمن كذلك أن يصل الأصلح للحكم.
ندخل على المسرحية، وهى تحمل عنوان «عدو الشعب» للكاتب النرويجى الأشهر هنرى إبسن (20 مارس 1828 – 23 مايو 1906)، وتحكى عن قرية تعيش أهمّ أيامها باكتشاف ينابيع مياه صحية تعالج المرضى وتشفيهم، وتحولت إلى ثروة اقتصادية وسياحية للقرية وحلم كل أبنائها بالرخاء والرفاهية، فإذا بطبيب القرية يكتشف أنها مياه موبوءة وملوَّثة وتسبب الأمراض لكل من يشرب أو يقترب منها.
الدكتور: لقد سميناها شريان البلدة المتدفق بدم الحياة ومركز القوة العصبية فيها، ومنشأة الحمّامات (الينابيع) كلها ليست إلا بؤرة تجتمع فيها كل أنواع الأوبئة أؤكد لكم، وهى أكبر مورد للأذى والإضرار بالصحة العامة. فإن كل القاذورات وكل تلك الحثالات المتعفنة، تتسرب إلى أقنية المياه المؤدية إلى الخزان وتفسدها! كما أن نفس هذه السموم المتعفنة الملعونة ترشح وتنضح على الشاطئ…
لكن شعب القرية كله يعلن غضبه وقرفه من الدكتور واكتشافه الذى سينهى أمل الرخاء والمال والرزق ويثير فى قلوبهم الرعب فينتقلون من مرحلة عدم التصديق إلى مرحلة لعن الدكتور إلى تحويله العدو الأكبر، عدو الشعب، من عمدة القرية إلى تجارها إلى شبابها ونسائها إلى مواطنيها العاديين يقفون ضد الدكتور، وهو يصرخ فيهم بأنه يبغى مصلحتهم وأن هذه الينابيع مصدر موت ومرض وخراب فكيف تريدون الإبقاء عليها وكتم حقيقتها؟ ويصل الصراع إلى ذروته، الغالبية كلها ضد الحقيقة وضد العلم، بل وضد مصلحتها، والدكتور وحده بلا نصير ولا مؤيّد، فنجده نفسه وهو يصارح الجميع فى أهم حوارات المسرحية وأكثر مشاهدها خطرا:
الدكتور: هذا هو الاكتشاف الذى وُفقت إليه بالأمس (يرفع صوته)، أخطر أعداء الحق والحرية بيننا، هم الغالبية المتراصة، نعم، الغالبية المتراصة الملعونة، الغالبية الحرة، أولئك هم فاعرفوهم (ضجيج عالٍ جدا، غالب الجمهور يصيح، ويضرب الأرض برجليه ويصفر ويتناول النظرات بعض كبار السن من بينهم، وتلوح عليهم سيما الارتياح وبعض تلاميذ يصيحون صياح الهِرَرة والكلاب وغيرها).
يرد عليه أحدهم: بصفة كونى رئيسا للاجتماع أكلف الدكتور أن يسحب ما تَعجّل به لسانه من القول بلا روية.
الدكتور: مُحال، إنها هى الغالبية فى مجتمعنا التى أنكرت علىّ حريتى وعملت على منعى من أن أنطق بالحق.
رئيس الاجتماع: الحق دائما فى جانب الغالبية. والصدق كذلك وربى.
الدكتور: لا يكون الحق فى جانب الغالبية بتاتا -أقول لكم بتاتا- تلك إحدى الأكاذيب الاجتماعية التى يجب على كل رجل مستقل حصيف أن يحاربها، ممن تتألف غالبية السكان فى هذا القطر يا ترى؟ أمن النابهين أم من السفهاء؟ لا يخامرنى الظن بأنكم تنكرون الواقع وهو أن السفهاء هم الآن أصحاب الغالبية الغامرة فى الدنيا برمتها، ولكن يا إلهى! فهل منكم من يستطيع أن يقول إن من الحق أن يتولى السفهاء حكم العقلاء؟ (صياح وضجيج).
أجل، أجل، يمكنكم أن تُخفِتوا صوتى بالصياح، ولكنكم لا تستطيعون الإجابة. الغالبية فى جانبها القوة، نعم، وا أسفاه! أما الحق فلا. إنى على الحق -أنا وبضعة أفراد متوزعين- القلة دائما على حق (ضجيج وصياح).
الدكتور: أفكر فى العدد القليل من الرجال المبعثرين بيننا الذين اشتفُّوا حقائق جديدة عفيّة، أولئك الرجال يقفون فى الطليعة، على مدى أبعد من أن تلحقهم الغالبية المتراصة. فى عزمى أن أثير ثورة على الأكذوبة السائرة: أكذوبة أن الغالبية هى وحدها صاحبة الحقيقة.
الجمهور كله (صارخا): عدو الشعب.
بعد أن تنتهى من المسرحية (وبالمناسبة كانت مقررة على طلبة المدارس المصرية فى الأربعينيات) تصل إلى الحقيقة الصعبة، أن عدو الشعب أحيانا هو الوحيد الذى يهتم بمصلحة الشعب فعلا!
__________________
|