أخي الحبيب
إن أساء أخاك الخلق فأحسن أنت ولاتكن مثله
قال الإمام علي رضي الله عنه "عاتب أخاكَ بالإحسانِ إليه واردُدْ شرَّهُ بالإنعامِ عَليه " وإن كان أخاك حسن الخلق وحصلت بينكما الخصومة، فالتمس له العذر ، وقل لنفسك إنها من نزغات الشيطان " قُل لعبادي يقُولوا التي هِي أحْسَن إنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينهم إنَّ الشَّيطانَ كانَ للإنسَانِ عَدواً مُبيناً " 53 الإسراء (ينزغ بينهم : يفسد ويهيج الشر بينهم ) . قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ الشَّيطانَ يئسَ أنْ يَعُبده المُصَلُّونَ في جَزيرةِ العَربِ ، ولكِن رَضِي بالتَّحْرِيشِ فِيمَا بَينهُم "رواه مسلم. فلا تدع للشيطان سبيلاً بينك وبين أخيك ،
وتذكر
أنّ كل إنسانٍ معرضٌ للخطأ فليس في الناس اليوم من هو معصوم من الخطأ ،
وإياك
أن تنظر إلى أخيك بعين السخط فقد قال الشاعر :
وعينُ الرِّضَا عن كلِ عيبٍ كَلِيلةٍ --------- كما أنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساوي
وإياك
أن تفرط في أخيك فأعقل الناس أعذرهم للناس ، قال على رضي الله عنه " أعجزُ الناسِ من عجزَ عن اكتساب الإخوان ، وأعجزُ مِنهُ منْ ضَيَّع مَنْ ضَفِرَ به مِنهُم " وقال أيضاً : منْ لم يحتَمِل زلَلََ الصَّديقِ مَات وحِيداً . وما عرفت قيداً للمسيئين أفضل من قيد الإحسان.
قال أبو الطيب:
وقيدتُ نفْسِي في ذرَاكَ مَحبَّةً ---------- ومنْ وَجدَ الإحْسَانَ قيداً تقَيَّدَا
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ثلاثة أيام " يَطلُعُ عليكُم الآن رَجُلٌ من أهلِ الجنَّة " فبات بن عمر رضي الله عنه عند ذلك الرجل ثلاث ليالٍ ليعرف السبب ، فلم يجده كثير الصلاة ولا الصيام ،فأخبره عن بشارة النبي له بالجنة فقال الرجل : هُو ما تَرى إ لا أني أبَيتُ وليسَ في قلبي شئٌ على أحَدٍ منَ المسلمين . فقال بن عمر رضي الله عنه : بهذا بلغَ ما بلغ . فتأمل يا أخي الكريم إلى أي درجةٍ يرتفع العفو بأهله .
ثم أنظر أخي الكريم ،كم يحسنُ اللهُ إليك وأنت تسيء؟ فهل تحب أن يجازيكَ الله تعالى على إساءتك بالمثل ؟ " وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلُها ". أم أنك تحب أن يعفو الله عنك ويغفر لك ؟! الجواب معروف بالطبع .
وهل تحبُ لإخوانك ما تحب لنفسك قال صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنفِسِه " . من أجل ذلك : أخي الكريم عليك أن تعفو عن إخوانك وأن تغفر لهم لكي يغفر الله لك ويعفو عنك " ارحموا تُرْحُموا واغفروا يُغفرْ لكم ". وقال ابن القيم رحمه الله : يا ابن آدم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو, وإنك تحب أن يغفرها لك الله , فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده , وإن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده , فإنما الجزاء من جنس العمل ... تعفو هنا يعفو هناك , تنتقم هنا ينتقم هناك تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك.
أخي الكريم
بعد ما قرأت هذه الأسطر المتواضعة عن العفو والتسامح والإحسان
فإني أضعك أمام ما قاله بعض السلف:
الأيادي ثلاَثةٌ:
يَدٌ بيضَاء وهي الاَبتداء،
ويد خضَراء وهي المُكَافأة،
ويدٌ سودَاء وهي المَنُّ .
وإما أن تكون من أصحاب اليد السوداء فتتبع هوى النفس ونزواتها ، وتحقق مآرب الشيطان، فَتُكِنّ القطيعةَ والبغضاءَ والضغينةَ لإخوانك ، وتضيّع المودة والمحبة فلا تعفو ولا تصفح ولا تغفر لإخوانك ، عندها اعلم أنك سلكتَ طريقاً يبدأ بالقطيعة وينتهي بشر مما بدء به ، بالخسارة ، واعلم أيضاً.قال علي كرم الله وجهه:
إنَّ النفُوسَ إذا تَنافرَ ودها ----------- مِثلُ الزُّجاجةِ كَسرُها لا يُجبر .
،وإما أن تكون ذو يدٍ خضراء فتأخذ بحقك من المسئ ولا تزيد على حقك ، وإن كان ذلك من حقك إلا أن العفو أفضل خاصةً إذا كان من المسيئ قد اعترف بذنبه واعترف ، قال المأمون الرشيد : لو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إليّ بالجرائم . وقال الشاعر :
يَستَوجِبُ العَفوَ الفَتى إذا اعْتَرفْ ------------- وتابَ عمَّا قد جَناهُ واقْتَـرف
لقوله : قـُل للذينَ كَفَــرُوا ------------- إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهُم مَا قَد سَلفْ
وقد جُبِلَتِ النفوسُ على حب مَنْ أحسن إليها وبُغْضِ من أساء إليها ،وإن كنت علىطريق الخير،لكن عليك أن تستكمل ما بنفسك من فضائل حتى تصل إلى مرتبة المحسنين :
أدِّب نَفْسَكَ واسْتكْمِل فَضَائِلها ------------ فأنْتَ بالنَّفْسِ لا بالجِسمِ إنْسَان .
وقد قال على كرم الله وجهه :إذا كان في رجل خَلَّة رائعة فانتظر أخواتها . فعليك أن تعود نفسك على كتم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إلى المسيء ، وعليك أن تعود نفسك شيئاً فشيئاً ، فإن الأمر لا يأتي دفعة واحدة ، بل هو من تعويد النفس على ذلك مرات ومرات حتى تصل إلى مرتبة المحسنين . قال صلى الله عليه وسلم "....ومن يتصبر يصبرّه الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيراَ وأوسع من الصبر " متفق عليه .
ومن المؤمنين رجالٌ بلغوا في الإحسان درجاتٍ عظيمةٍ فهم لا يقتصرون على دفع الإساءة بالعفو فحسب بل يزيدون فوق ذلك الإحسانُ إلى المسيء ، وهؤلاء هم أصحاب اليد البيضاء ، وهم أصحاب الفضل العظيم ،لأنهم يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت وسمت أخلاقهم ، فعفوا عمن ظلمهم وأعطوا من حرمهم ووصلوا من قطعهم وأحسنوا إلى من أساء إليهم ‘ فانقلب عدوهم صديقاً حميماً وغَنِمُوا بمحبة الله ومعيته وأجره ومغفرته وعفوه وقربه ." ادفَع بالتي هِي أحْسَنُ فإِذَا الذِي بَينكَ وبَينُه عَدَاوةٌ كَأنَّهُ وَليٌ حَمِيمٌ ، ومَا يُلقَّاهَا إلا الذينَ صَبرُوا ، وما يُلقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيم "فصلت :34
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تُؤمِنُوا ، ولا تُؤمِنُوا حتى تَحَابُّوا ، ألا أَدلُّكُم على شئٍ إذا فعلتُمُوه تَحابَبْتُم ، أفَشُوا السّلامَ بينَكُم " رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه "يا بني إن استطعت أن تُمسي وتُصبح وليس في قلبكَ غلاً على مؤمنٍ فافعل ، فإن ذلكَ من هديّ ، فإن ذلكَ من سنّتي ، ومن أحَبّنِي أحبَّ سُنَّتي " .
فهيا أخي الكريم :
أنثر بذور المحبة والمودة والوئام ، ودع عنك مكائد النفس والشيطان ،وأسلك سبل السلام فالسلام يورث المحبة ، والبشاشة حبال المودة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ، والتسامح والعفو من درجات الإحسان و "هل جزاءُ الإحْسانِ إلا الإحْسَان " الرحمن: 60 .
وأخيرا أخي الكريم ،
إن لم تكن على خصومة مع أحد ، فأنت على خير كبير ، لكن لا يفوتك أجر الإصلاح بين المتخاصمين ،
وقد جاء في الحديث الشريف " أفضل الصدقة : إصلاح ذات البين " رواه .و قال أمين الوحي جبريل عليه السلام : " لو كان لنا عبادةٌ في الأرض لانشغلنا بإصلاح ذات البين ".
وقد وعد الله المصلحين بين الناس بالأجر العظيم ومدح الله تعالى هذا الأمر فقال " لا خير في كثير من نجواهم ، إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " 114النساء . "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " الأنفال :1 وقال " إنما المؤمنون أخوة ، فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " 10 الحجرات
وذلك لما لهذا الأمر من شأن ومكانة ، وإن اضطر المصلح بين المتخاصمين للكذب جاز له ذلك شرعاً ،
عن أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليس الكذابُ الذي يصلحُ بين الناسِ فيُنمي خيراً ، أو يقولُ خيراً " متفق عليه .
اللهم ألف بين قلوب المتخاصمين , و اجعلنا الله من أهل الحظ العظيم
وفي الختام
أرجو منكم المعذرة فقد أطلت وألتمس منكم العفو إن قصرت ، ومن الله إن كان صواباً ماقلت ، ومن نفسي و الشيطان إن أخطأت .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .