- "فلس" .... " طين" ...... " فلس " ... " طين "
"كفى !!"
كف الكلام ... وبقي الصمت ..الصمت وحده ، أما فارس فصمت وظلام ، واهتزاز سيارة وسواد وصمت ... ثم إطراق ... ثم غيبة عقل ... ثم صوت كحجر سقط على الأرض :" وصلنا الدار .. حمدا لله على السلامة!"
دار كبير مستطيل الشكل مبني بحجارة كانت بيضاء إلا أن السنين أبت تركها دون أن تكتب عليها عمرها بالأيام والعقود ... فشمس تقحل الحجارة حتى فاح قحل رائحتها وليل يجثو حتى تراكبت أحجار الدار بعضها فوق بعض فلا يرى بينها فراغ ولا ينفذ فيها هواء ولا يتسلل منها نور فهو جدار ستر أكثر منه جدار حجر!
نزلت عصاه أولا ... نعم هكذا نكون قد وصلنا الدار !"
فتح عابد الباب .. صوت إحتكاك الحديد الصدئ ... انتفض فارس وتسمر مكانه ، جذبه ياسين من ذراعه " تفضل سيدي!" دخل فارس ومن أمامه آدم يجري ويقفز في صحن الدار ويغني:
London Bridge is falling down >> falling down >> falling down
London Bridge is falling down, my Fair Lady!!"
( جسر لندن ... يتساقط ... يتساقط ... جسر لندن يتساقط , يا سيدتي الجميلة!)
أسرعت الخادمة نحوه لتنزع معطفه وتأخذ عصاه ..." أتركيها " ... ارتجفت الخادمة من صليل صوته الحاد فولت الأدبار
- " إن أمي نائمة الآن ... ويمنع الدخول عليها ... سننتظر في العليّة !"
- " لا .. سأبقى هنا ! "
- " شأنك !... أنا ذاهب لجلب الأغراض"
أسرع ياسين نحو سيده يجلسه على الأريكة ويسوي له المساند .. ثم انطلق يساعد عابد
ترك فارس العصا .. واعتدل واقفا ثم أخذ يتحسس الأرض بخطوات قدميه ... مد يده إلى اليمين يتلمس الجدار ..
" ... أحجار ... أحجار ... لا هذه حجارة منقوش عليها ... إنه اسمي واسم عابد ... كتبته أنا عندما قام بأولى خطواته واستند إلى هذه الحجارة....أجل ... وهذا تاريخها 64 ... وهنا بالقرب منها .. أذكر ... شجرة الزيتون ... هذه هي ... كنا نتسابق أنا وعلي وعابد أينا يجلس تحتها بجانب الجدار ... فأتحايل عليهما وألهيهما فأسبقهما ... فكنت أنا من يجلس .. نتضاحك ونقطف الزيتون قبل أوانه ونتقاذف به ..."
هبت نسمات عليلة مزيجها اريج ياسمين مع صوت آدم يغني ...
London Bridge is falling down >>> falling down >>
" ياسمين ... كنت أقطفه لأمي في الصباح وأشبكه في شعرها وهي تعجن لنا الخبز وتضعه في التنور ... تبادرني بقبلة فأعقبها بحضن طويل ... وما أن تخرج أول رغيف حتى أسرع فألتقطه وهو ساخن فتلقفه يميني إلى يساري ويسا ري إلى يميني... فتضحك : " اصبر يا حبيبي حتى يبرد !" ... ثم أجري به نحو العريش آكله جالسا جنب البتّية ( خزان الماء ) متأملا أوراق العنب من فوقي كيف هذبها أبي لتظليل المكان وتبريده..
" أحجار ... أحجار ... وهذه ... حجارة ... 67 ... تذكار ميلادي العاشر ... كتبته قبلها بأسبوع قبل ذهابي إلى القدس حيث منزل جدتي ... فقد وعدني جدي عند إتمامي العاشرة بجواد صغير , خرجت مع جدي ذلك اليوم لإختياره .. أريده جوادا أسودا شديد السواد ... له سرج أحمر ... أمتطيه وتهتفوا لي ... الفارس فارس ! ...المقاتل فارس!"
….is falling down >>> falling down >>…..
" ماذا يقول الناس؟...طائرات ..أين يا جدي الطائرات؟... قنابل ... ما شكلها ؟.... رصاص بنادق ...وعساكر يهود ... في القدس؟... احترس مم؟ .... السماء ... ما بها ؟ ... نور ساطع ... فوق ....وتوقف كل شئ!"
" ضمادة على عيني... لم ؟ ... أين الجواد ... أين جدي ...؟ آآآه ... عيناي تحترقان يا أمي ! ... أمي ؟ ... ماذا تفعلين هنا ؟... لم تنتحبين ؟ ... ماذا حدث ؟...حقنة، لم؟ ...وانقطع كل شئ!"
" أين الضمادة .. لا ضمادة....لا جواد ... لا جد .... أمي ..أشعلي النور ... لا أرى ! ... ماذا حلّ بوجهي ... احترق ! .. عيناي احترقتا ! ... لا أرى ... لن أرى ! ... وانتهى كل شئ!"
" لقد استيقظت أمي ... هيا بنا !"
انطلق الجميع نحو السلم المفضي إلى غرف الدار .. واتجهوا إلى أقصى اليمين حيث غرفة الأم .. كان كل شئ تعلوه ظلمة تقريبا إلا قليلا من ضوء مصباح خافت تشتد آشعته حوله وتتلاشى في الأركان ... والسكون ... شق هذا السكون وقع أقدامهم وصوت هامس " أمي قد جاء فارس وولده لرؤيتك!"
سبقت خطواته.. جفنيها ... ودموعه.. مقلتيها ... وأخذ يتحسس السرير ليصل إلى يديها وهوى عليهما يقبلهما ... فتحركت أصابعها نحو نظارته السوداء تنتزعها " لا ... يا أمي !"
- " إخلعها أريد أن أراك ... أريد أن أقبلك ! "
- " وجهي قبيح .. لا تنظري إلي !"
- " ... أنت ابن بطني ، يا فارس! ... تأخرت علي كثيرا هذه المرة ... ألم تشتاق إلي ؟"
كان ممكنا أن يقول ..... لم يجب !
- " الفارس فارس!"
- " أن لست فارسا ... أنا أعمى ... وليس علي حرج "
- " لا بل أنت فارس "
- " لا جواد لي "
- " ليس لكل فارس جواد"
- ....." جدتي جدتي .... " فلس " ...." طين "
ابتسمت وأغمضت عينيها