
30-06-2011, 11:48 PM
|
 |
التخصص العملى: ليسانس آداب وتربية لغة إنجليزية
هواياتي: القراءة _ الكتاب _ الرسم
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2011
الموقع: الأسكندرية
المشاركات: 29
|
|
فارس .... قصة قصيرة
الاسم : فارس الجبيلي
الجنسية : مواطن بريطاني
النوع : ذكر
تاريخ الميلاد : 5/ 6 /1957
محل الميلاد : رام الله - فلسطين
محل الإقامة : لندن
-- " شكرا .... تفضل " _ بالإنجليزية بلكنة عبرية
أخذ المدعو فارس جواز سفره الأحمر القاني ثم انطلقت يده تبحث عن اليد الصغيرة بجانبه ، فما كاد يمسكها حتى شبك أصابعه بأصابعها فصارتا قبضة واحدة كبيرة لا يميزها عن بعضها سوى الحجم واللون ، وانطلقت يده الأخرى ممسكة بعصا تبحث عن ثغرة تخرج صاحبها من وسط الجموع المتراصة في المطار فما لبثت أن اصطدمت بشخص انسان تعرفه ويعرفها .. فكثيرا ما كان يحضرها لسيده من الخزانة في كل مرة يريد فيها الخروج من البيت ، فتبادر يد السيد سريعا باقتطافها كما لو تقطف عين حياتها ، فتقبض عليها بكلتها مطمئنة صاحبها أنها ممسكة بالعصا لن تتركها مهما حصل وأنها ستجتهد في تلمس الجدران ... والدق على الطرقات ... واستبيان الأرصفة ... والولوج في الحشود ... وشق الصفوف ... وأنها لن تكف عن الحركة يمنة ويسرة وصعودا وهبوطا ... لسان حالها يقول بذوق .. " من فضلكم .. انتبهوا إلي إنني أمرّ ...!"
إنها عين في يد ، ويد بعصا ... فاليد مبصرة والعصا مبصرة ... وصاحبهما قد كف بصره، كما لو أن الله قد قضى أن كل انسان مبصر في هذا الوجود .. فهذا يبصر بعينيه ... وذاك بيده ... وثالث بعصاه ... ورابع بقلبه ... ولكن الكل مبصر !
--" هل انتهيت سيدي ؟"
--" نعم ، يا ياسين !"
صوت مألوف ولسان مألوف قد اخترقا سمعه منذ ساعة ونصف قد قضاهما فارس في ذاك الخط الطويل بالمطار ... إنه ياسين الشاب العربي الذي لا يفارق سيده في حضر أو سفر فلا يخطو خطوة إلا وهو معه ،قد استجلبه فارس منذ عشرة سنوات لما صار استاذا جامعيا بجامعة أكسفورد وكثرت مشاغله ومصارف شواغله فكان لابد مع اليد والعصا المبصرتين من عيني شاب مبصرتين كذلك!! ..
أخذت عينا ياسين تجولان في المكان حتى لمح رجلا حاملا لوحة قد كتب عليها بالانجليزية " الدكتور فارس غريب الجبيلي " تهلل وجه ياسين وقال مسرورا " سيدي ..أعتقد أن هذا أحد أقاربك !" ... بالفعل فهذا عابد شقيق فارس الأصغر .. فهو لا يحمل فقط لوحة يتشابه فيها اسمهما وإنما يحمل أيضا وجها تتشابه فيه ملامحهما .. عدا تلك الندب التي على وجه فارس فحول نظارته السوداء التي لا يفارقها أبدا آثار شظايا قد خلفت ندبا عميقا عند إحدى حاجبيه وجلدا منكمشا في وسط جبهته وعلى مقدمة وجنتيه قد انصبغتا بلون ليس من لون جلد البشر – قمحي زيتي وبني مع بقع سوداء – وقد محيت منها ملمس جلد البشر وبقي ملمس أشبه بملمس جلد لمسخ ... فلون مصبوغ .. وملمس ممسوخ !!
أما تحت النظارة .. فلا يهم طالما أنه تحت النظارة!
أسرع ياسين نحو عابد يشق الصفوف مصطحبا معه فارس بعصاه تشق جدران اللحم ... طارقة على الأرض لتنبيه الواقف أن يفسح .. والمار أن ينتظر .. والساهي أن ينتبه .. والمنتبه أن ينظر ... إنه لا يعبر صفوفا وإنما يعبر أياما وليالٍ كانت حائلات بينهما ... وهو لا يجتاز ممرات وإنما يجتاز بحارا وصحارٍ كانت واقفات بينهما ...فيقطع بذلك الزمن والمسافات في هذه العشرين مترا حتى يرجع يقف أمام أخيه عند آخر كلمة قالها له وآخر حضن ضمه فيه ....
إلتقا الأخوان .... فالتقت الأجساد ومن قبلها الأرواح ... فتشابكت الأذرع ... واختلطت الأنفاس والأدمع ... تريد أن تستوفي حق عشرة أعوام من الفراق ولكن أنّى لها ! ... فهناك خطب عظيم ومصاب جلل قد تملكهما هذه اللحظة ... " مرض الأم "! ... الذي أعيا الأطباء لا تشخيصه وأنما مداواته .... فهو جرح غائر قديم، كثير التقيح ، كثير النزف ،على إثره نقل الكثير من الدم ، شديد الألم لا تجدي معه الأدواء ... فيزيد الألم حتى ينقطع عنده الإحساس والوعي ولا يبقى سوى ألم من حولها !..
امتدت يدا فارس نحو وجه أخيه تتلمسه في محاولة لمعرفة... هل بدلت السنون والأعوام قسماته ؟ ... هل ظهرت بوجهه التجاعيد .. وكيف شكلها ؟ .... يريد أن يرسم في عقله صورة حديثة لوجه أخيه ... أو وجهه هو ! ...
فما كان ليجسر أن يضع يديه على وجهه أبدا ..قد تمر بهذا الندب العميق ..او تتعرج أنامله عند الاقتراب من جبهته المنكمشة .. فتنكمش بذلك أنامله إلى الوراء .. فتصطدم بوجنتيه المحترقة فيحترق بذلك فؤاده على ما أصاب عينيه ...
ومن هذا القمر الصغير؟
إنه ولدي آدم
ما شاء الله ... يشبه الإنجليز تماما! .. تعال سلم على عمك يا حبيبي ؟ ... ماذا؟ ... ألا تفهم العربية ؟ ... لماذا لم تعلمه العربية يا فارس ؟ ... إنها لغة القرءان ولغة بلدك ؟"
الإجابة سهلة ، فهي دائما كذلك ... كان ممكنا أن يقول " مشاغل " .. أو " لا يوجد مدرس كفء " أو " أن أمه إنجليزية ولا تعرف اللسان العربي" ... أو " إنه نجح في تعليم إبراهيم – ولده الأكبر – العربية وأصبح يقرأ قصار سور القرءان ويحاول حفظها !" .. أو أي شئ آخر .. ولكن هذه المرة جف حلقه وتلعثم لسانه .. فلم يسعفه لسانه الطلق في محاضرات الأدب الإنجليزي ولا حذاقته في إرهاق أصحاب رسالات الدكتوراة أثناء مناقشته إياهم .... ولا حتى ذكائه في احتياله على زوجته لاسترضائها عند تغيبه في العمل .. فلم يجب!
انطلق الجميع نحو السيارة مغادرين المطار
- ما اسم البلد التي سنذهب إليها يا أبي؟
- Palestine
لا يا أبي .. بالعربية كي أقولها لجدتي؟
- فلسطين
- صعبة يا أبي ... قسمها لي؟
" فلس " ..يردد الولد .... ثم يطرق فارس ويمتقع لونه " طين " .... ويردد الولد
" فلس .... طين ..... فلس ..... طين ....." طوال الطريق
بدأت كلمة ثم صارت لعبة ، كلما سارت السيارة " فلس " وإذا توقفت للتفتيش" طين " ! ، بدأت بثأثأة ولعثمة " فلس " .. وإطراق وسرحان " طين " ثم سرعة " فلس " ... " طين " ثم ثقل ... ثم غيبة عقل ....ثم صوت كحجر ألقي في ماء ساكن :
" وصلنا !"
ثم كحجارة ألقيت من علٍ " ألن تنزل يا فارس؟!"
نزلت عصاه أولا ... واصطدمت بالأرض ... هذا تراب ... صوته تحت قدميه ... تراب لاغيره ... رائحته تراب يسد أنفه وحلقه " أين نحن ؟ هل وصلنا؟!"
" لا يا فارس ... هذا قبر أخيك علي ... حسبتك تود زيارته كالمرة الفائتة!"
كان يمكن أن يوليه ظهره ويغادر ... كان ممكنا أن يعاتبه " وما أدراك أني أود زيارة القبور! " أو أن يصرخ في وجهه " أرجعني إلى البيت "... إلا أنه.. جف حلقه .. وتلعثم لسانه ...لم يجب ! ... الكلام سهل .. والإجابة أسهل ...فهي دائما كذلك ... لم يتحرك !
" علي ...أخي الأكبر ... رفيقي في ظلامي إلى إنجلترا ... من الطبيب إلى المدرسة إلى المكتبة إلى الجامعة ... ثم تركني ورجع بلده ... ولم أرجع معه ... أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون .. أسأل الله لنا ولكم العافية!"
- " هيا بنا ..لقد تأخرنا !"
- "فلس" .... " طين" ...... " فلس " ... " طين "
"كفى !!"
....................يتبع ......................... ......ز
|