
نصر أبو زيد خمس سنوات قضاها والده فى انتظار الموت، بسبب أزمات قلبه المتكررة. كلما شعر بقرب الخاتمة، طلب حضور ابنه البكر «الشيخ نصر»، يعظه: «انت مش عيل صغير، انت راجل، ولو أنا مت الليلة دى، لازم بكرا تروح الامتحان، مهم قوى تاخد الإعدادية».
حصل عليها نصر بالفعل، وتمنى الانتقال إلى مرحلة الثانوية العامة ومنها إلى الجامعة، ليدرس بالقسم نفسه الذي درس فيه الدكتور طه حسين، الذي سبق وقرأ له "شجرة البؤس" و"دعاء الكروان". صارح والده: «لازم أدخل الثانوية العامة»، فرد الأب بحدة، «إما أن تدخل مدرسة الصنايع أو تقعد فى دكان البقالة».
طرق نصر باب عمه، وكان يدير المدرسة الصناعية بكفر الزيات، فقرر أن ينقذ نجل شقيقه، "كيف لطفل أتم القرآن الكريم حفظا وتجويدا واعتاد على الآذان فى المسجد منذ الثامنة من عمره، حتى صار يلقب فى قريته بالشيخ، كيف يكون مصيره إلى مدرسة الصنايع؟". حاول العم، مع الأب، لكن والد نصر تمكن من حسم الجدل بضربة قاضية، حين سأل شقيقه: «لو أنا مت ونصر فى الثانوية العامة أو فى الجامعة، هل هتصرف عليه هو وإخواته"؟
دخل نصر مضطرا إلى مدرسة الصنايع، وفى الإجازة، كان "دراع أبوه اليمين" فى دكان البقالة المتواضع، فى مسقط رأسه بقرية قحافة التابعة لمدينة طنطا. مات الأب، تاركا فى رقبة نجله البكر، رعاية بنتين وولدين إلى جانب والدته، ليعمل بعد تخرجه عام 1961 «فنى لاسلكي» فى شرطة النجدة بالمحلة، ويضيف إلى دخل الأسرة 19 جنيها شهريا.
لم ييأس، التحق بالثانوية العامة «من منازلهم»، واستمر فى عمله بالنجدة، والتحق أخيرا بكلية الآداب فى جامعة القاهرة، دون أن يترك عمله أيضا، حتى حصل على الليسانس بتقدير امتياز عام 1972، فأصبح معيدا بكلية الآداب، ليبدأ رحلة التحدى، ليتنقل من فكر الإخوان الذي تربى عليه، إلى فكر المعتزلة ثم إلى المتصوفة.
حصل على الماجستير بامتياز، وكان موضوع الرسالة «قضية المجاز فى القرآن الكريم عند المعتزلة»، وحصل على الدكتوراة بامتياز أيضا مع مرتبة الشرف الأولى عام 1981، وكان موضوع رسالته «تأويل القرآن عند محى الدين بن عربى»، حتى رقى إلى أستاذ مساعد بعد صدور كتابه «مفهوم النص» عام 1988، وهنا ذاع صيته وسط النخبة.
رفض شوقى ضيف، ذو المرجعية السلفية، ترقية أبوزيد إلى درجة الأستاذية، إذ لم يكن معجبا بكتاب "الشافعى"، الذى كتبه أبو زيد، لكنه أسند مهمة كتابة تقرير الرفض إلى عبد الصبور شاهين، وكان يعمل حينها كمستشار لمجموعة شركات الريان لتوظيف الأموال، فكتب تقريرا يتهم فيه أبو زيد بالكفر، ليتطوع أحد المواطنين، برفع دعوى قضائية لإثبات تكفيره وتفريقه عن زوجته، لكن المحكمة الابتدائية لم تحكم بذلك، بل فعلتها محكمة الاستئناف، التى فرقته عن زوجته، قبل أن توقف محكمة النقض الحكم، وهو ما فسره أبوزيد وقتها بأن الهجوم عليه راجع إلى تعرضه بالنقد لشركات توظيف الأموال التى انتشر فى ذلك الوقت.
ضاقت مصر فى وجه أبو زيد، فقرر السفر بسبب الإجراءات الأمنية المشددة عليه، لكن أين يسافر؟، خاف أن يغادر إلى أمريكا، حتى لا تلاحقه تهمة «العمالة للغرب»، فسافر إلى هولندا، حيث جامعة «ليدن»، قبلة الباحثين فى الدراسات الإسلامية. وفى أول محاضرة له، تدفقت الجموع تستمتع لما يقول الباحث المصري، أملا فى معرفة تفاصيل النفى والاضطهاد فى الدين والبلد، لكن أبو زيد، بدأ محاضرته باسم الله الرحمن الرحيم، وأتبعها بنطق الشهادتين: «لاإله إلا الله، محمد رسول الله». فعلها فى هولندا، رغم أنه رفض أن يفعلها أمام المحكمة فى مصر، «حتى لا يكرس لمحاكم التفتيش فى بلد الأزهر». فكان يكرر: «نحن لا ندرس الله، ولا نقترب من الذات المقدسة، وإنما نقترب بالدراسة كما طلب منا الخالق، من الكلام الإلهي، الذى هو واسطة بيننا وبين الله».
رشح نصر لجائزة الحريات الأربعة التى تحمل اسم الرئيس الأمريكى روزفلت، التى تقام بين أمريكا هولندا. رفض فى البداية، لكنه وافق بعد علمه بأن الزعيم الإفريقى نيسلون مانديلا ضمن الفائزين بالجائزة نفسها. ذهب نصر برفقة زوجته ليتسلم جائزة «الحرية الدينية»، وارتدى كلاهما "الكوفية الفلسطينة" الشهيرة، مكتوب عليها: «القدس لنا». وفى كلمته دافع عن المقاومة فى فلسطين، مهاجما إسرائيل بحدة، ليخسر أبوزيد الكرسى الدائم فى جامعة ليدن، فيقرر بعدها الرحيل إلى جامعة أوترخت، «لا فى مصر عاجب ولا هنا عاجب»، كان يقولها بشئ من السخرية المرة.
ظل مغتربا فى هولندا، لكن زوجته كانت تسافر إلى القاهرة كل حين. كتب رسالة، وأوصى زوجته أن تنقلها إلى والدتها وخالها، اللذان كانا يستعدان للحج حينها. وأوصى أن تُقرأ تلك الكلمات على قبر الرسول: «حاولت أن أشرح للناس رسالتك لكنى هوجمت، فلن أجد ما أقول إلا ماقلته أنت فى الطائف: اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى وهوانى على الناس، أنت أرحم الراحمين ورب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى قريب يتجهمنى؟ أو إلى عدو وكلته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، غير أن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بى غضبك، أو يحل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
قبل موته بشهور، كان يحدث أحد تلامذته المصريين فى هولندا: «أرجوك كلمنى كل يوم، قولى: عامل إيه؟ واقفل السماعة، فإذا مت هنا، فلن يسمع بى أحد». زار أندونيسيا فى أيامه الأخيرة، لكن أعراض المرض بدأت تظهر عليه، فنقلته زوجته للعلاج بالقاهرة، بعد أن فقد الإحساس بالزمان والمكان، وظل أسير سريره فى غرفة العناية المركزة، يبكى فى أيامه الأخيرة: تسأله زوجته، ولم البكاء؟، فيقول: «تاجروا بدم الشهداء فى سيناء»، ثم يذهب فى غيبوته، قبل أن يعاود البكاء مجددا، فتسأله زوجته عما يبكيه: «الظلم الواقع على المرأة والأقباط فى بلدنا».
مات أبو زيد، عن عمر يناهز 67 عاما. مات الذي حاربوه حيا، واستكثروا عليه الدعاء بالرحمة، حيث اتصلت سيدة لتسأل شيخا أزهريا فى أحد برامج القنوات الفضائية، «لو القضاء حكم بتكفير شخص، ينفع نقول ربنا يرحمه؟»، يباغتها الشيخ بالسؤال: «انت بتتكلمى عن نصر حامد أبو زيد؟»، ثم تابع الشيخ بـ"عمامته الأزهرية" حديثه بكل ثقة وجرأة: «إذا القضاء حكم على إنسان بكفر، لا نقول: الله يرحمه، وإنما نقول: أفضى إلى ما قدم،»، فترد السيدة ممتنة «ربنا يخليك ياسيدنا الشيخ، ويا ليت ما قلته يقال فى المساجد ويعلم فى المدارس»، فيؤكد "الأزهري" فتواه، موضحا: «هذه الكلمة تقال إلى كل شخص نحسب أنه من المشركين».
منقول